بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 تشرين الأول 2018 12:07ص قبة العشرة (1) من قبّة السماء الفيروزية إلى قبّة المسجد والزاوية

حجم الخط
عثرنا في إحدى الوثائق القديمة على ذكر لقبة وسط بيروت القديمة  باسم «قبة العشرة»،وقد رأينا قبل بيان موقعها ومحتوياتها  وتسميتها ، ذكر بعض ما عرفته بيروت من قباب.

يمرّ الوصول الى القبة بثلاثة مراحل الأولى  تتمثل في الانتقال من المربع الى الشكل المثمن.
والثانية في الانتقال من الشكل المثمن الى الشكل الدائري وصولاً الى المرحلة الثالثة بالتغطية بما يشبه القصعة المقلوبة – أو الطاقية. ونقل محمد الحسيني عبد العزيز في كتابه «دراسات في العمارة والفنون الإسلامية» معتمداً على دراسات المهندس فريد شافعي وكريسويل وكوبلاستون أن أول محاولة لتغطية المباني بالقبة ترجع الى محاولة قام بها مهندس مصري قديم في القرن الخامس قبل الميلاد في دير ابو النجا. 
محاولات تغطية المباني بالقبة قديمة، ذكر أن أول محاولة تعود للقرن الخامس قبل الميلاد  قام بها مهندس مصري في دير أبو النجا، وتمثلت في العثور على غرفة مربعة فوقها قبة. وعثر على شكل مماثل في مدفن روماني في الأردن كما عثر على قبة في اللاذقية بسورية في القرن الثالث قبل الميلاد.
ويقول المهندسون ان القبة تنشأ عن قطع الكرة الى نصفين ثم قطع جوانب نصف الكرة الى أربعة مستويات متعامدة على بعضها فينتج عن ذلك أنصاف دوائر.
وقد عرفت القباب في العراق ثم في فارس وانتقلت الى الطراز الروماني. فاستخدم الرومان القباب لتغطية المساحات الواسعة ذات المسقط الدائري أو كثير الأضلاع.
وانتشر في العمائر البيزنطية  استعمال المساقط المربعة والمضلعة المستديرة ذات الأصل الروماني، وظهر ذلك في القسطنطينية وفي أقاليم الشام مثل كنيسة بصرى وكنيسة عزرا. كما استعملت هذه النماذج في المعمدانيات والمقابر. يذكر ان الكنائس في العصر المسيحي المبكر غطيت بجمالونات من الخشب (والجمالون سقف بشكل سنام الجمل كان البيارتة يبنونه من الخشب في حدائق بيوتهم). ثم تغلب على الطراز البيزنطي نظام التغطية بالقباب وأنصافها والأقبية الطولية والمتقاطعة. كانت توضع قبة رئيسة  فوق الجزء الأوسط من مسقط البناء سواء اكان مستطيلاً أو مضلعاً ثم تحاط تلك القبة بقباب ثانوية أو أنصاف قباب توضع فوق أقسام أخرى من المسقط المحيط بالجزء الأوسط .كما نفذ في قلعة بيروت الصليبية فقد زار الرحالة اولبريد اولندبرغ بيروت سنة 1212م ودخل الى احد القصور أي القلعة فقال فيها «كانت  مرصوفة  بالفسيفساء التي تمثل مياهاً متجمدة فيتعجب الماشي كيف لا تغوص رجله في الرمال  في قعر المياه  وكانت جدران الغرف مزدانة  بقطع الرخام المنقوش» ويضيف «كانت قبتها مدهونة بالصباغ الأزرق على شكل السماء وفي وسط الغرفة بركة من الرخام الملون الخ». 
وككل فاتح كان المسيحيون عند استيلائهم على المعابد الرومانية يحولونها كلها أو أجزاء منها الى كنائس، حدث ذلك عندما شيدت كنيسة القديس يوحنا داخل المعبد الروماني القديم في دمشق والذي حول فيما بعد الى  الجامع الأموي. وجرى الشيء نفسه عندما حول المعبد الروماني في حماة الى كنيسة ثم أصبح المسجد الأموي هناك.
حفريات 1923
وقد أظهرت الحفريات التي تمت سنة 1923م في وسط بيروت وتلك التي جرت منذ سنة 1991 الى ظهور أعمدة رومانية تحت الجامع العمري الكبير الذي بناه الصليبيون كنيسة على اسم يوحنا المعمدان فوق المعبد الروماني ثم حول الى مسجد باسم الجامع العمري الكبير سنة 1291م ووصف بالكبير لتميزه عن الجامع العمري الصغير الذي أنشأه المسلمون عند تلة قلعة بيروت بعد الفتح والذي بني على انقاض معبد روماني ظهرت انقاضه  وبقاياه اثناء حفريات إعادة إعمار وسط بيروت. 
ومن المعلوم ان الأعمدة كانت تؤخذ من المعابد الرومانية القديمة لاستعمالها في الكنائس والمساجد.
وقد وجدت في العصر الإسلامي المبكر عدة أنواع لتغطية الأسقف وهي وفقاً للمهندس فريد شافعي الأسقف الخشبية المسطحة والجمالونات. واستعملت في القسم المحيط بالدائرة الوسطى لقبة الصخرة ويرجح المهندس شافعي ان تكون القبة الأصلية فوق الصخرة من الخشب كما هي اليوم وأمثال هذه القبة نادرة في العمارة العربية الإسلامية.
وكما أسهم الغساسنة العرب في إنتاج الطراز البيزنطي في الشام، أسهم المناذرة العرب كذلك في إنتاج الطراز الساساني ولاسيما في العراق المتمثل بالإيوان الذي انتشر منذ أيام العباسيين في أبنية بيروت القديمة داخل السور. وكان الإيوان القديم مفتوحاً على الفسحة الداخلية للدار بعقد وقنطرة كما يظهر من صورة إيوان بيت الشيخ علي الفاخوري والد المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في محلة الشيخ رسلان (نشرت صورته مع هذا المقال من مجموعة نبيل اسماعيل) وكانت داره فسيحة وغرفها كثيرة كان البيارتة يقيمون فيها أفراحهم حسبما جاء في ذكريات الشيخ عبد القادر قباني. وقد احتفظ بالإيوان في الأبنية التي بنيت خارج السور أواخر القرن التاسع عشر ليصبح غرفة عرفت «بالليوان» (كما ذكرناه في كتابنا منزول بيروت). كما انتشرت الأقبية المتقاطعة في العمارة الرومانية ثم في الأقبية البيزنطية كما تشاهد في مساجد بيروت القديمة. 
وعرفت بيوت بيروت القديمة المدخل المنكسر الذي سماه المؤرخون بالباشورة وتمثل في ان يقابل باب مدخل البيت جدار من دهليز – زاروب – بحيث لا يتمكن الطارق من رؤية داخل البيت، وقد يكون هذا الطراز قديماً إنما عممته التقاليد الإسلامية لعدم الكشف على داخل البيت مقر النساء.
ومن نافل القول ان بناء القبة أصعب وأشد كلفة من بناء العقود المتقاطعة لاسيما عند ندرة الحجارة اللازمة لذلك، وهي أصعب أيضاً من بناء القناطر الحجرية، فمن المعلوم ان الحجر الأوسط في أعلى القنطرة يأخذ شكل المثلث قاعدته الى الأعلى و يسمي المعماريون ومعلمو العمار هذا الحجر (واسطة العقد) «المقموط» قياساً على تقميط الوليد أي شده بقماط يلف به في سريره. والفعل قمط شد وربط. قمطت المرأة ولدها لفته (الملفة) ثم ربطت حوله بقماط. والقمطة قطعة قماش تلف به المرأة شعر رأسها.
وقد عرفت بيروت طراز الأقبية المتقاطعة وطراز القباب  الحجرية في المساجد والزوايا والحمامات والأسبلة والأضرحة كما سنبين في محله.
البعد الروحي للقبة
يمكن القول ان للقبة معنىً روحياً يتجاوز حجرتها وطريقة بنائها. ففي كل زمان ومكان يتطلع أصفياء القلوب الى السماء يتناوبون بين الارتياب الديني والشك الفلسفي، يتنازعهم شعور ببطُل الدنيا وقطع الرجاء منها. وكثرت الأسئلة التي اقلقت بال البشر إلا أن الشيء الثابت هو أن الزمان يمرّ والحياة تنقضي فالزمان لا يقف ولا ينتظر أحداً والحياة لا تخلد لأحد.  يبكى السحاب حزيناً على خضرة الروابي، فتنبت من رفاتنا أزهاراً تفتن الأبصار – أليس أديم الأرض إلا من الأجساد على قول أبي العلاء.
ومنذ ان خلق الإنسان تطلع الى السماء ونظر وتفكر في خلق السموات والأرض وكلما رأى كوكباً تعلق به فلما أفل قال مقولة ابراهيم الخليل، «أني لا أحب الآفلين».
نسب الى عمر الخيام قوله مستغفراً «لسنا تحت هذه القبة الزرقاء من الفيروز الرخامي كافرين لئاماً ولا مسلمين تماماً « فليس الأذان والمئذنة والقبة سوى تسبيح لله القادر، وليس المحراب والمنبر والصلاة سوى لشكر الله وتوحيده وحمده والتسليم له.
اقتبس المسلمون قبة السماء في مساجدهم وزواياهم وحماماتهم وأضرحتهم وأسبلتهم. واختار الصوفية بناء قبة فوق زواياهم وأضرحة شيوخهم معتبرين القبة رمزاً مصغراً للمعنى الروحي  للسماء. فالتعليم محصور في الزاوية – التكية – للمريدين فقط لا ينفصل عن المعنى الروحي للمئذنة ولا تضاد بين القبة والمئذنة  فالأخيرة اعلان ونشر وجهر بالدعوة وتبليغ لها.  والقبة رمز مصغر للقبة الزرقاء، ودعوة التوحيد التي تتردد تحت القبة الصغيرة تتردد أيضاً من المئذنة في أرجاء القبة الكبيرة.
وشاع القول بأن تحت كل قبة شيخ وان الناس بشوفوا قبة بخمنّوا تحتها مزار. علماً بأن الكثير من الأضرحة يبنى باسم أحد الأولياء أو الصالحين وأن لم يكن مدفوناً فيه.
 *محامٍ ومؤرخ