حفلت بيروت على غرار المدن الإسلامية بالمؤسسات الاجتماعية كالحمامات العامة والأسبلـــة، وقد استطاعت هذه المؤسسات البقاء والاستمرار طويلاً بأداء رسالتها بفضل نظام الأوقاف الذي يدرّ عليها مورداً يكفل لها الاستمرار في أداء رسالتها. ويعود انتشار الحمامات الى ان الإسلام جعل النظافة من أركان الإيمان، ونادى القرآن الكريم بأن الله تعالى يحبّ المطهرين والمتطهرين. قيل الكثير عن حمامات بغداد والقاهرة ودمشق. وقد اقترن بناء الحمامات بإنشاء قباب لها من أجل تنوير الحمام ولم تشذ حمامات بيروت عن هذا التقليد، فضلاً عما لها من دلالات اجتماعية في حالات شفاء المريض وحمام العرس والولادة وما رافقها من عادات وتقاليد وطرائف ذكرنا بعضها في كتابنا « منزول بيروت».
وكانت الحمامات العامة مقصداً للناس من مختلف الطبقات رجالاً ونساء للاستحمام قبل أن يألف الناس ذلك في منازلهم. ولم توجد الحمامات الخاصة الا في قصور الحكام والأغنيـــــــاء ما دعـــــــــــــا الشيخ ناصيف اليازجي الى تأريخ بناء حمام في دار الحاج عمر بيهم سنــــــــــــة 1270 هـ/1853 م بقوله:
هذا مكان للطهارة والنقا
فادخل إليه بالسرور ملازما
وأنعم بماء الطّهر منه مؤرخاً
فلقد كتبتُ به نعيماً دائما
حمام سيف الدين تنكز نائب دمشق
ان أقدم إشارة لبناء قبة لحمام ذكرها صالح بن يحيى بقوله ان نائب دمشق سيف الدين تنكز (1312- 1339م) أنشأ في بيروت عدة أبنية منها البرج الصغير أو برج البعلبكية كما أنشا خاناً وحماماً يستدل مما كتب على بابه انه من شعر ناصر الدين حسين وان للحمام عدة قباب فيها جام (زجاج على نمط الحمامات) وقيل فيه:
وحمام يروق العين حسناً تجد فيه المسرة والنعيم
تريك الماء يسرح فوق نار وذاك لمن يرى نفي الهموم
كأن قبابها والجام فيها سما طالعات بها نجوم
وقد رفعت لمن شاد المعالي وأضحى في الملوك لها زعيم
به أمن الشام وساكنيه وطيبة والمشاعر والحطيم
ولم نعثر على نظام عمل هذا الحمام ولا عرفنا مصير بنائه وذلك حتى سنة 1592م حين تسلم فخر الدين المعني الثاني بيروت قبل هروبه الى إيطاليا سنة 1611م ولبث فيها خمس سنين ونيف. وجعل فخر الدين سنة 1632م بيروت عاصمة ثانية له. إلا أنه انهزم أمام الجيش العثماني فنقل الى الأستانة سنة 1633م ثم قطع رأسه فيها.
ومع أنه قيل الكثير عن ازدهار بيروت أثناء حكم الأمير فخر الدين مما لا يخلو من مبالغة لأن السنوات القليلة التي تولى فيها بيروت لم تكن تسمح بإنجاز الكثير من المشروعات مع الحروب التي كان يشارك بها.
الحمام الكبير أو حمام فخر الدين أو ابن سيفا
قال الرحالة الفرنسي دارفيو سنة 1660م عن حمامات بيروت «الحمامات نظيفة أرضيتها من الرخام مختلف ألوانه القاعة الوسطى مغطاة بقبة فيها عدة ثقوب مدورة Ronde مغطاة بأجراس من الزجاج تنير المكان ومن هذه القاعة يدخل الى كابينات Cabinet معقودة ومضاءة بذات الطريقة».
ولعل ما بقي من آثاره حماماً يفترض بناؤه سنة 1632م وقد يكون هو حمام تنكز قام فخر الدين بتجديده فنسب اليه. وقد زاره عبد الغني النابلسي سنة 1700م وقال في كتابه الرحلة الطرابلسية عن حمامات بيروت « وأما حماماتها فأربعة الأول حمام الأمير فخر الدين بن معن. الثاني حمام القيشاني. الثالث حمام الأوزاعي. والرابع قديــــم لا يعرف له اسم وكلها مهجورة ما عدا حمام الأمير فخر الدين. وسبب ذلك الظلم من الحكام، فإن هذا الحمام للميري يؤجره الحاكم في كل سنة هو وقهوة هناك بألف قرش ومائتي قرش . وهذا الحمام هو المستعمل الآن الذي هو حمام فخر الدين مبلط بالرخام الملون يحتوي على شاذروان (حوض) في داخله، يحوط بجوانبه الأربعة أربعة إيوانات كل إيوان بقبو وقوس ، وفي مشلحه بركة ماء مثمنة ويشتمل على قبة مرتفعة على عواميد يحوط بتلك القبة أربعة أقبوة (جمع قبو عقد من حجارة) على أسلوب جامع الأمير عساف غير أن الجامع يزيد عليه في القباب».
ويستفاد من نص النابلسي ان بيروت حوت أربعة حمامات ويشير الى ان الحمام الرابع قديــم لا يعرف له اسم (قد يكون هذا القديم هو حمام تنكز) ويؤكد النابلسي ان الحمامين الآخرين أي القيشاني والأوزاعي هما مهجوران. وكان حمام الأوزاعي خاصاً به ويقع بجوار بيته في الدرب الطويلة وهو ملاصق لسور بيروت الغربي وقد توفي الأوزاعي فيه. أما حمام القيشاني فنرجح أنه رمم بعد ذلك وأصبح يعرف بالحمام الصغير أو الفوقاني كمـــــا سنبيــــن فيما بعد.
يبدو من كلام النابلسي أن قبة حمام فخر الدين أو حمام السراي المجاور للسراي او الحمام الكبير بنيت من عدة أقبية وليس عن طريق تحويل المربع الى مثمن ويستتبع ذلك أن تأتي الإنارة من زجاج موزع في القبة على عكس ما يظهر من الصور الباقية للحمام الصغير أو الحمام الفوقاني .اما اوليا شلبي فذكر سنة 1670م الحمام الكبير باسم حمام ابن سيفا.
محلتان في بيروت القديمة الفوقانية والتحتانية
يتبين من العودة الى سجلات الطابو العثمانية، ومنها الدفتر العائد لبيروت من روك (اي مسح) سنة 1517م وما يليها أن أسماء المحلات والعائلات المسجلة فيه هي الأسماء التي كانت سائدة في عهد المماليك ، ذلك أن أسماء المناطق والأحياء والحملات والزواريب، وكذلك اسماء العائلات لا تتغير بين ليلة وضحاها، بين انتهاء حكم المماليك وبدء العهد العثماني.
ووفقاً لدفتر الطابو المذكور فإن بيروت كانت مقسمة الى محلتين تحتانية وفوقانية، تفرض التضاريس الجغرافية الصفة المشار اليها فمن المعروف ان أحياء بيروت تبدأ من الشاطىء ثم ترتفع شيئاً فشيئاً، وأن الفرق في المستويين يبرز ظاهراً منذ حدود السراي القديمة أي جامع الأمير عساف وسوق الفشخة (شارع ويغان)، فالمحلة التحتانية تمتد من هذا الشارع الى ساحل المدينة، ومن هنا تسمية حمام السراي بالحمام التحتاني، ومن يدرس جغرافية المدينة يدرك الفرق بين الحيين، فمن الثابت ان رأس شارع المعرض أعلى من شارع ويغان، ويتجلى هذا الفرق في درج باب الدركاه نزولاً الى ساحة النجمة كما ان الفرق بين مستوى المحلتين الفوقانية والتحتانية يتجلى من درج كان ملاصقاً شرقاً لكاتدرائية مار جرجس المارونية كان ينزل منه الى أسواق ابي النصر واللحامين والأرمن وعرف بدرج الأربعين او درج خان البيض الذي كان موجوداً تحت الكاتدرائية. وإذا كانت أسماء بعض المواقع المنسوبة الى عائلات أو أشخاص تتغير بتبدل الأزمان وخفوت ذكرهم إلا أن الأسماء المرتبطة بمواقع جغرافية تبقى عصية على التبدل . فالتحتاني يبقى كذلك والفوقاني أيضاً.
محتويات الحمام الصغير (الفوقاني) وقبته
عرفنا محتويات الحمام الفوقاني الصغير من مقابلات شخصية مع بيارتة مخضرمين منهم الحاج خالد العشي أبو شوشة وخليل حسن الحوري رحمهما الله فقد ذكرا لي بان موقع الحمام المذكور تقريباً بجوار مبنى البنك العربي الحالي في شارع المصارف، وكانت له قبة يتسلل النور من زجاجات منها. وكان مؤلفاً من مدخل وزاروبين وثلاث غرف وقاعة استقبال. ويوجد الخلقين وتحته الوجاق الى يمين المدخل. وفي غرف الحمام حنفيات تصب مياهها في اجران حجرية وفيها كاسات وكراسي خشبية. والى يسار الحمام زاروب كانت توضع فيه الأخشاب والحطب للقمّيم. وغرف الحمام واحدة شرقية وأخرى قبلية فيها خزانة لتغيير الثياب ولبس القباقيب ومساحة كل من الغرفتين تسعة أمتار اما غرفة الحمام فهي طويلة وليست مربعة أما مواعيد الحمام فكانت صباحاً للنساء وبعد الظهر للرجال والدخولية بشلك أو نصف بشلك.
ويؤكد شاهدا العيان المشار اليهما انه كان ينزل الى الحمام بعدة درجات من ساحة عصور وقد وجد فرن الى يمين الدرج وزاروب الى يساره يوصل الى الحمام .
وقد ورد ذكر الحمامين في عدة وثائق ففي 21 ذي القعدة 1267 هـ / 1851م باع سعد الدين قباني الى مفتي بيروت محمد حسن المفتي الطرابلسي الأشرفي اربعة قراريط من أصل 24 من جدك الحمامين الكائنين باطن بيروت اشتهر أحدهما بحمام السرايوالثاني بحمام القيشاني الصغير.. وفي 21 جمادى الأولى 1259 هـ /1843م أجر الحاج مصطفى القباني الى محمد عبد الفتاح آغا حمادة «الحمامين الكائنين باطن المحمية الشهير احدهما بحمام السراي والثاني الصغير» وفي 16 جمادى الأولى 1264 هـ/1848م وكل محمد فتح الله المفتي بيع ما يخصه من الدكان الواقعة بمحلة شويربات الكائنة بالقرب من «الحمام الفوقاني». وفي 23 شعبان 1266 هـ/ 1850م باع حسن دندن الحصة البالغة قيراط واحد وثلاثة أثمان القيراط من فرن بمحلة شويربات» «تجاه الحمام الفوقاني». وفي 13 شوال 1304 هـ/1887م باعت أمينة مصطفى القباني حصة شائعة في عدة عقارات منها مخزن في سوق البازركان «من محلة الحمام الصغير». وفي 14 جمادى الثانية 1302 هـ /1885م جرت محاسبة بين ورثة الياس سلوم على الحمامات الثلاثة الكائنة داخل بيروت ما عدا الحمام الجديد (اي حمام الدركاه الذي بني سنة 1864م). ولم نتبين محتويات وطراز هذا الحمام الاخير . إلا انه تبين وجود قبة لحمام الزهارية اي حمام زهرة سورية الذي بني سنة 1886م من قبل آل الّزهار.
*محامٍ ومؤرخ