بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 كانون الثاني 2021 10:34ص أوراق بيروتية (3): كيف ضاعت أوقاف جوامع العمري الكبير والامير عساف والامير منذر

وثيقة مسجد الأمير منذر وثيقة مسجد الأمير منذر
حجم الخط
أثبتت الوثائق تأجير الأراضي والأبنية الموقوفة، من المتولي لمدة طويلة غالبها يصل إلى تسعين سنة، وذلك بحيلة قانونية بأن تؤجر بعقود متضايفة – أي مضاف بعضها إلى بعض - كل عقد منها لمدة ثلاث سنوات. ويصار إلى تحديد البدل عن كامل المدة المذكورة ويتم دفعه على طريقتين: إما منجماً كله على السنوات بحيث يدفع سنة فسنة، وإما على دفعتين: دفعة أولى معجلة تشكّل القسم الأكبر من البدل ودفعة مؤجلة ضئيلة منجمة سنوياً أي موزعة سنة فسنة.وهذا النوع من الاستغلال يسمّى الإجارتين. والمهم في هذه الإجارة الطويلة أنه يؤذن للمستأجر بأن يبني ويغرس ما يشاء ويكون ما يبنيه ويغرسه ملكاً له ولورثته من بعده. ثم يأتي يوم يضيع فيه سبب وضع المستأجر يده على المأجور، فيأتي من حفدته من يتملّك العقارات الوقفية ويسجّلها على اسمه كملكية خاصة. وكان من حق الباني في أرض محتكرة من الوقف أن يبيع البناء لمن يشاء. وليس من الضرورة أن تكون الإجارة لمصلحة شخص طبيعي فقد تكون لمصلحة مسجد كما لم يكن اختلاف الدين مانعاً من تأجير عقارات موقوفة على مسجد.

***

كان موظفو المساجد يخضعون للمبدأ الشرعي «نص الواقف كنص الشارع» وقد أخذ به المذهب الحنفي الذي كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية وفقاً لما قرره الفقهاء الأحناف بأن نص الواقف يجب إتباعه والعمل بمقتضاه واعتباره كنص الشارع الذي لا يمكن التصرف به أو التحوّل عنه، كما التزمت نظارة الأوقاف العثمانية بهذه القاعدة ولم يكن موظفو مساجد بيروت يقبضون رواتبهم استناداً الى رتب ثابتة ودرجات محددة. وقد علّق الشيخ طه الولي على ذلك بقوله «ان بعض المساجد كانت غنية في ريع عائدتها الوقفية وكان الأئمة والخطباء والمدرّسون والخدم في هذه المساجد يتقاضون رواتب عالية في حين أن موظفي المؤسسات الفقيرة في ريعها كانوا يتقاضون رواتب بخسة وكثيراً ما كان بعض المشايخ الكبار يتهافتون على وظيفة خادم في أحد المساجد ويعرضون عن وظيفة خطيب أو إمام أو مدرّس في غيره لأن الراتب المقرر للخادم في المسجد الغني يزيد أضعافاً مضاعفة على رواتب موظفي المسجد الفقير. ويستنتج بأن ضعف الريع للمساجد الفقيرة كان سبباً في ترك صيانتها فتتعرّض للخراب والزوال. ومن المرجح ان تعيين القضاة والمفتين ومتولي الأوقاف في بيروت قبل سنة 1840م أي قبل احتلال إبراهيم باشا كان يتم من الولاة أو المتسلمين. وبعد ذلك التاريخ عاد الحكم العثماني المباشر وجرى تنظيم عمل المحكمة الشرعية وسجلاتها وتم إخضاع الأوقاف الخيرية لنظارة الأوقاف في الاستانة ولمن ينتدب من قبلها في مراكز الولايات.

أصدر السلطان محمد رشاد في 2 رمضان 1331هـ نظام توجيه الجهات في 62 مادة حدّدت الوظائف الدينية وطريقة تعيين الموظفين، وقد وصفت الخدمة بإسم جهة وكان من هذه الجهات التدريس والخطابة والإمامة والتولية ويشترط تحصيل علمي لها ويتم التكليف بها بصدور براءة من السلطان وتركت الوظائف الأخرى كالقيم وحافظ الكتب والفراش لنظارة الأوقاف أو للإدارة المحلية. وقد جاء في الوثائق الشرعية انه عندما يتقدّم شخص لوظيفة معينة يصار الى سؤاله من قبل القاضي بحضور مدير أوقاف بيروت عبد اللطيف حمادة وبعد ثبوت الأهلية يرفع القاضي الشرعي الأمر لولي الأمر أي السلطان لاستصدار فرمان بذلك.

الجامع الكبير العمري

يذكر ان دراسة المساحة العمرانية في بيروت القديمة لسنة 1860م من خلال أحد دفاتر الوقف قام بها جوزف رستم ونشرت في المجلة التاريخية لجامعة البلمند، وبنى الباحث دراسته على أحد دفاتر الأوقاف في ارشيف إسطنبول العائد لسنة 1278هـ/ 1861م, وتظهر الدراسة أن ريع أوقاف الجامع العمري الكبير يشكّل نسبة 42% من الواردات العامة للأوقاف وتصبح النسبة 72% إذا ضم لها ريع أوقاف مسجدي الأميرين عساف (السراي) ومنذر (النوفرة) بحيث يبلغ المجموع ثمانين ألف قرش ولبيان أهمية هذا الريع نشير الى أن ريع جامع السلطان أحمد في إسطنبول بلغ مائتي ألف قرش. يذكر ان السلطان عبد الحميد الثاني أمر سنة 1894م بتجديد بنيان الجامع الكبير العمري ومقام النبي يحيى في الجامع المذكور. وقد نظم أحد شعراء بيروت تأريخا لتلك المناسبة خمسة أبيات أرسلت من ولاية بيروت الى الاستانة ولم يتبيّن ناظمها والأبيات هي:

في عصر سلطاننا عبد الحميد جرى

تجديد بنيان هذا الجامع العمري 

حتى تكون فروض الله قائمة

فيه ويدعى له بالنصر والظفر

حامي حمى الدين والدنيا بهمّته

وناشر العدل بين البدو والحضر 

أدامه الله مرفوع اللواء على

هام الكواكب محروساً من الكدر

له مآثر خيرات مخلّدة

أرّخ ونشهدها من أحسن الأثر 

نشير إلى أن الأوقاف المضبوطة هي التي تدار بمعرفة إدارة الأوقاف وقبلاً بمعرفة نظارة الأوقاف، وهي نوعان: الأوقاف التي انقرض نسل الواقفين فيها وضبطتها الإدارة. والأوقاف التي ضبطت من المتولين المشروطة التولية لهم بعد أن ظهر تبذيرهم وإسرافهم. بناء عليه ورد أمر من نظارة أوقاف همايون في الآستانة، مضمونه «أن الشيخ عبدالرحمن النحاس قائمقام نقيب الأشراف في بيروت يستدعي إعطاؤه بطريق الإجارتين البيت الجاري في وقف الجامع الكبير والكائن في محلة شيخ السربة المشتمل على قبو معقود به بئر ماء نابع مالح وأوطه صغيرة مسقفة تلاصقه وعلى ست أوط علويات مسقفات ومطبخ وفسحة وسلم وأنه ليس لوقفتيه قيد وأن المذكور من العلماء المستحقين للرعاية، فقد صار التصريح من الدركنارب أنه إذا كان يوجد مسوغ لتحويل البيت للإجارتين بأجرة هي حد الاعتدال يصار إلى تنظيم مضبطة بذلك.

فعندئذ صار الكشف على البيت من أبي حسن الكستي كاتب محكمة بيروت ومن الشيخ أحمد الرفاعي وكيل حسن شوقي أفندي مدير أوقاف صيدا (باعتبار أن البيت مضبوط لجهة أوقاف الجامع المذكور ولا متولي له وإنما هو تحت إدارة المدير المومأ إليه) ومن السيد محمد قرنفل وجرجس طراد من أعضاء مجلس إدارة لواء بيروت ومن معمار باشي الخواجه إلياس صباغة وشيخ النجارين علي بلوز اللذين ثمّناه بمبلغ 7000 قرش معجلة و25 قرشاً مؤجلة في رأس كل سنة وأن الأجرة المذكورة هي بحد الاعتدال وإعطاء البيت للمستدعي فيه الأصلحية للأوقاف حيث يوجد به تشعيث وتخريب وإذا رمّم من مال الأوقاف لا تفي أجرته بفائض ما يصرف عليه وكتب بذلك إلى نظارة الأوقاف في 14 ذي الحجة 1286».

جامع الأمير عساف (السراي)

من نماذج بيع بناء محتكر ما أثبتته الوثيقة المؤرّخة في 17 رجب 1265هـ من بيع سليم آغا ابن الحاج حسين الشكودري (من إسكيدار) وشقيقه عبدالله تفكجي باشي سابقاً إلى ميخائيل بن عبدالله أوغلي مبايعجي أيالة صيدا البناء الذي جدّداه في جل محتكرة أرضة من متولي وقف جامع السرايا عبدالله خرما والجل المذكور أحد جلول الست ضيا الواقع لجهة العلو الكاين بالقرب من برج الجديد الشهير الآن (بتاريخ الوثيقة) بالقشلة.والبناء المباع مؤلف من إيوان ومربعين وأودة وبيتين ورواق مسقوف بالجسور والأخشاب بمبلغ اثنان وعشرون ألفاً ومايتا قرش وعلم المشتري بما هو مرتب على أرض الجل من الحكر الشرعي لوقف جامع السرايا في كل سنة وقدره 200 قرش. وكان عبدالله محمد خرما بصفته متولياً على أوقاف «جامع الأمير محمد عساف الشهير الآن بجامع السرايا» قد أجر وأحتكر في غرة رجب 1259 ميخايل عبدالله أوغلي مبايعجي أيالة صيدا جلا آخر «فوق بوابة يعقوب بالقرب من برج الجديد المعروف الآن بالقشلة شرقه الجل السابق لكي يغرس فيه ما شاء واختار من أنواع الغراسات على مدة ثلاثين عقداً متضايفة كل عقد ثلاث سنين بأجرة 18000 قرش موزعة على السنين كل سنة 200 قرش.

ومن نماذج الاجارة بين عدة أوقاف ما سجل بتاريخ 27 ربيع الأول سنة 1262هـ عندما استأجر واحتكر كل من الحاج محمد عبدالقادر موسى المتولي على وقف الجامع الكبير العمري، والسيد مصطفى طه كلمني المتولي على أوقاف جامع الدباغة والسيد مصطفى إبن الشيخ عبدالهادي قرنفل الوكيل عن عبدالله محمد خرما شقير المتولي على أوقاف جامع «الأمير عساف الشهير بجامع السرايا» من عبدالله خرما المتولى وقف التكية الكاينة عند بوابة المصلى، بمال وقف المساجد الثلاثة للمساجد المذكورة، والمؤجر المحتكر هو قطعة أرض مفرزة من جنينة التكية تبلغ مساحتها 1517 ذراعاً «على مدة عشرين عقداً متضايفة كل عقد منها يتبع الآخر وكل عقد ثلاث سنين بأجرة عن هذه المدة 36000 قرش موزعة على السنين المرقومة حساباً عن كل سنة 600 قرش» وأذن للمتولين أن يبنوا ما شاءوا وأرادوا.

يذكر أن عبد الله خرما أجّر وأحتكر في 6 رجب 1259هـ ميخايل الضاني قطعة من سطح فرن جارية في وقف الجامع طولها 9 أذرع وعرضها 7 أذرع على مدة ثلاثين عقد منها يتبع الآخر وكل عقد ثلاث سنين بأجرة عن المدة المذكورة 9000 قرش عن كل سنة ماية قرش وأذن المتولي للمستأجر بناء ما شاء في القطعة ويكون ملكاً له. كما استأجر واحتكر ميخايل الضاني المذكور من عبدالله خرما المتولي المشار إليه قطعة أرض من وقف الجامع نفسه ملاصقة للفرن الكاين في محلة قرا وجاق تجاه سلم بني الفاخوري طولها 11 ذراعاً وعرضها 5,50 أذرع، على مدة ثلاثين عقداً متضايفة كل عقد ثلاث سنين يعدل عن جميع المدة تسعون سنة من تاريخه بأجرة قدرها 45000 قرش حساباً عن كل سنة 500 قرش وأذن المتولي للمستأجر بعد أن رأى النفع التام للوقف أن يبني ويعمر في القطعة ما شاء وأراد من أنواع البناء والعمارة ويكون بعد ذلك ملكاً له. وفي السنة نفسها استأجر مصطفى العريس من عبد الله محمد خرما متولي أوقاف جامع السراي قطعة أرض من وقف الجامع على تسعين سنة ببدل 36000 قرش.

أوقاف جامع الأمير منذر (النوفرة - المعلق)

حصلت منازعة سنة 1259هـ بين الحاج سعيد بازارباشي الداعوق المتولي على أوقاف جامع الأمير منذر المعروف الآن بجامع النوفرة وبين ديبه بنت عبد الرحمن إدريس بشخص وكيلها محمد إبراهيم العاتكي الشهير بشيخ الصباغين، حول قطعة أرض في حارة الرصيف قرب طاقة القصر داخل مدينة قرب السور، فقد طلب أجرة منها باعتبارها واضعة يدها عليها وادّعت بأنها احتكرتها من المتولي السابق على الجامع الحاج عبداللطيف درويش الحسامي سنة 1241هـ إلا أن بينة الحكر لم تثبت، فاستأجرت الأرض مجدداً على مدة 23 عقداً متضايفة كل منها ثلاث سنين. وعندما أصبح الشيخ مصطفى الرفاعي متولياً على جامع الأمير منذر أجر في 5 محرم 1265هـ محمد ابن الحاج بليق وأحكره قطعة الأرض المفرزة من جنينة التوت الجارية في وقف الجامع الواقعة قبلي الجامع الملاصقة لدار والد المستأجر طولها ذراعين ونصف وعرضها ذراعين على مدة ثلاثين عقداً كل عقد بثلاث سنين بأجرة قدرها 810 قروشا عن كل سنة 9 قروشا. وفي جمادى الأولى سنة 1263هـ/ 1846م باع سعد الدين بن الشيخ حسن الداعوق الى أخيه الحاج سعيد المتولي على وقف جامع الأمير منذر الذي اشترى بمال الوقف 12 قيراطاً من دار معروفة بدار المغربي شرقها قيسارية الشيخ شاهين تلحوق و8 قراريط في دكان بني الداعوق بمبلغ 14000 قرش. وفي 27 رجب 1264هـ/ 1848م اشترى مصطفى عبد القادر الرفاعي المتولي على جامع الأمير منذر 28 قيراطاً من دكاكين مصطفى أحمد رمضان من مال الوقف بمبلغ 13000 قرش. وفي 19 جمادي الثانية 1263 هـ/ 1847م اشترى سعيد الداعوق المتولي على أوقاف جامع الأمير منذر بمال الوقف عليّة يصعد إليها من دار «أبي علي قزموز الجرن» بمبلغ 500 قرش فضة أسدية.

 * مؤرخ