نعيش في هذه الأيّام، ذكرى الولادة المباركة لخير البريّة وسيّد الخلق، محمد بن عبدالله، الّتي حصلت في شهر ربيع الأوّل، بين من يقول في الثّاني عشر منه، ومن يقول في السّابع عشر...
ونحن لن نتوقّف عند هذا الاختلاف، ولن نرجّح رأياً على رأي، بقدر ما يهمّنا أن ندعو إلى أن تكون هذه المناسبة، من جهة، مناسبة فرح عامر يشعّ بالضّياء، ومن جهة أخرى، مناسبةً للاستفادة من معاني هذه الولادة والأخذ من دروسها.
فدروس محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم)، هي دروس الإنسانيّة الحقّة، وبالنّسبة إلينا، فإنّ الإنسانيّة هي تعبير أو مصداق لاستخلاف الإنسان على الأرض، فكلّما تخلّق الإنسان بأخلاق الله، ارتقى درجات في مراتب الإنسانيَّة، والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، ومنذ نشأته، تخلّق بهذه الأخلاق. ومن دون أن يكون هناك أمر أو تكليف، اهتدى إليها بعون من الله، بصفاء فطرته ووعيه وفكره وتفكّره.. وقد حرّك محمّد، فتى مكّة، كلّ الطّاقات الّتي زوّده الله بها، حرّكها بالاتجاه الصّحيح، فكانت النتيجة أن ارتقى وسما وعلا وصفا، حتّى قرّبه الله منه واصطفاه، فكان المصطفى.
إنّ المطّلع على ظروف نشأة محمد (صلى الله عليه وسلم) والمجتمع الّذي عاش فيه قبل أن يبعث نبيّاً، يدرك مدى المعاناة الّتي بذلها حتّى ينتهج ما انتهجه، فقد انفلت رسول الله، من عقال السّائد والدّارج والموروث، وغادر كلّ ذلك بقلبه وعقله وروحه، قبل أن يغادره قولاً وعملاً، فيقلبه رأساً على عقب، بعد أن سدّده الله وبعثه بالرّسالة.
وقد تمكَّن محمّد (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، لأنَّه حرَّك كلّ الطّاقات الكامنة فيه، فقد حرَّر عقله أوّلاً، فكان الإنسان المتفكّر الّذي يبدأ من الدّاخل، داخل النّفس..
وقد تحرّر أيضاً، ومنذ نعومة أظفاره، روحيّاً، برفضه عبادة الأصنام، فتعلّقت روحه بقوّة الخالق الّذي أحسّ به واهتدى إليه.
عاش الارتقاء الفكريّ والرّوحيّ إلى آخر مداه، ولكنَّه لم ينعزل أو يَنْفُر ممن حوله ولقد رفض محمّد (صلى الله عليه وسلم)، منذ نشأته، كلّ السَّائد من الأفكار الخاطئة، وتمرَّد عليه وأنكره ومقته، ولكنّ هذا لم ينعكس على معتنقيها. ترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما كان عليه الآباء والأجداد، واختار الانسلاخ عن أفكارهم وعاداتهم، ولكنَّه لم ينكرهم، فلقد فصل بين الفعل وبين من يأتي به، فتمكّن من أن يكره الشّرك، ولكنّه لم يكره المشركين، ودعا لهم بالهداية: «اللّهمَّ اهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون»، وهنا تكمن قمَّة الإنسانيَّة؛ أن ترفض السّائد المنحرف، وتخالف البيئة الفاسدة الّتي ولدت فيها، ولكنَّك تظلّ تحبّ أهلك وقومك، وتظلّ تبرّ بهم وتنصفهم وتصاحبهم في الدّنيا معروفاً، ولا تحقد عليهم. هذه هي الأخلاق النبويَّة.
لقد أيقن محمّد (صلى الله عليه وسلم)، أنَّ العلاقات الإنسانيَّة هي جوهر الحياة، والّتي لا يصبح الإنسان مسلماً إلا إذا ارتقى بها، مع الأقربين ومع الأبعدين، مع من يتَّفق معهم أو مع من يخالفونه، وهو الّذي قال عنه الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم...}.
فلتكن ذكرى ولادة رسول الله محطّةً لنا لنسأل ونتأمّل في كيفيّة تشكيل قناعاتنا في هذه الحياة؛ أيّ جزء منها هو نتيجة السَّائد والموجود، وأيّها هو نتيجة جهد شخصيّ.
هي فرصة لكلّ واحد منّا، ليتأكّد من أنّ خياراته هي نتيجة فهمه وإيمانه هو، وليست انعكاساً لآراء الآخرين. إنّ سيرة رسول الله كلّها، قبل البعثة وبعدها، تعلّمنا أن لا نكون مجرّد صدى للواقع من حولنا، وحتّى لو كان هذا الواقع إيجابيّاً ويدعونا إلى الخير، لأنّ المشكلة هي في كيفيّة تشكيل القناعات، فلو اعتدت الاتّباع، ماذا يضمن لك أن لا تتحوَّل الإيجابيّات من حولك إلى سلبيَّات، بعد أن تكون قد اعتدت ألا تخالف النّاس ولا تخالف المشهور ولا الموروث؟!
ونحن في ذكرى ولادة رسول الهدى، نريد أن يشكّل المؤمنون قناعاتهم الحقيقيّة بكلّ ما يقومون به من خلال فهمهم العميق للأشياء وليس تعصّباً لها، وهذا هو البناء المتين للشخصيّة الّتي لا تهزّها الأزمات.
إنَّ القيام بالعمل من منطلق المجاراة والمسايرة فقط، هو سلوك هشّ وليس صحيّاً، فقد يعيش أحدنا في بيئة مؤمنة، تمارس فيها عادات إيمانيَّة ، ولكن أن تمارس الطقوس العبادية لا يعني أن تفعل ما يفعله الآخرون لتكون مجرد جزء منهم فحسب، بل عليك أن تتعمّق لتفهم معاني كلّ ما تقوم به.
إنّ علينا أن ننتبه دوماً إلى أن يكون إيماننا في الله، في رسوله، في آل بيته، وأصحابه الأطهار في الجهاد وفي البرّ والرَّحمة والمحبَّة، في الصّدق والأمانة وغيرها من الصّفات الحميدة...
إنني في ذكرى ولادة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذا العام، وسط كل ما يتسلّل إلى الأمة أتساءل: ماذا لو بُعث اليوم، فهل سيتعرّف إلى هذه الأمة؟ لن يتعرّف إليها، بسبب تفرّقها وعداء بعضها لبعض. النبيّ يعرف جيّداً أيّ أمّة أنشأ وأراد، فهو لن يبحث عن الهويَّات، بل سيبحث عن الأخلاق أوّلاً، فالغاية الّتي بُعث من أجلها هي إتمام مكارم الأخلاق، وهو سيرفض الانتماء الأجوف النّاجم عن التعصّب له من دون معرفة أو تدقيق. رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيتبرّأ ممن يجرمون باسمه، ولن يقبل حجّتهم وتبريرهم: هكذا علّمونا، أو كنت أقوم بما تقوم به جماعتي وأهلي وناسي ومجتمعي... لن يقبل رسول الله ذلك سيقول: ألم تتفكّر؟ ألم تتعقّل؟ ألم تنتبه؟ ألم تلتفت؟ الوجع كبير كبير، وما يحصل يشكّل خللاً في مكان ما، ويحتاج إلى ترميم وعلاج، أو حتّى إلى ثورة على مستوى الفكر والأخلاق والسّلوك.