بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 أيار 2020 12:00ص مات القاضي الشيخ يحيى الرَّافعي.. فهل يغيب منهجه الحضاري في الرَّأي والثقافة والاجتماع؟

حجم الخط
طلق المحيَّا، دائم البشاشة والابتسام، يزرع السعادة بعذوبة كلماته، ويحصد الفرح بحضوره أينما حلَّ ومتى حضر. هوايته الدَّائمة، التَّأخّر في الوصول إلى الاجتماعات؛ وحجَّته، التي لا تتغيَّر في هذا التَّأخر، الشَّكوى من ازدحام السَّير وما يلاقيه المرء من عَنَتِ التَّجوُّلِ بالسيارة في هذا البلد. ولطالما عرف أنَّه كان يبالغ في هذه الحجة؛ بيد أنَّه كان واثقاً أبداً، أن من يستمع إليه، سيقبل بكل سرور أيَّ عذرٍ لتسويغ تأخرِّه في الوصول، طالما أنَّه قد حضر. 

مجلسه، أنسٌ وحبورٌ، وكلامه عمق رؤية وجرأة تعبيرٍ واتِّزان حُكْم. لم يعرف كيف يهادن، ولم يرغب في أيَّة مهادنة؛ شهر سيف، ما كان يؤمن أنه حق؛ وحارب به، ما كان يرى أنه ضلال.

ذكيٌّ، ألمعيٌّ، عميق الفكرِ، رهيفُ الإحساسِ بخيوط القضايا؛ يعرف كيف يجمع هذه الخيوط، ولو من هباء، ويتقن غزلها لتصير وجوداً محسوساً، ويجيد، كذلك، كيف ينسج منها قضيَّة يحمل لواءها ويسير في ركاب الحق الذي فيها.

صادق المشاعر، رقيق الأحاسيس، طريفُ الحضور وجميل الدعابة.صديق أهل الثقافة؛ يجول، بنقاء عِمَّتِهِ، في مجالسهم، على اختلاف أديانهم وتنوّع مذاهبهم وتعدّد مناطقهم، فيكون له الصَّدر من كل مجلس؛ يعرف كيف يعرض رأيه، ويتفوَّق في فن جذب من يستمع إليه إلى حُسن الإصغاء لما يقول. آمن أن لبنان وجود فكر وثقافة، وعرف كيف يكون رائداً فذَّاً في مجالس العلم والأدب فيه. أجاد الخطاب، وأجاد تحليل الأمور، فكان حضوراً ثقافيا وعلميا ووطنيا بامتياز.

رفع راية الفكر الإسلامي عالياً؛ فصال وجال في مؤتمرات عالمية، وأدلى بآراء وانتقادات في ندوات كبرى، وكان المجلِّي في كلِّ سبق.

«يحيى الرَّافعي»، يا صديقي، منذ خمس وثلاثين سنة، وأستاذي، منذ ستين سنة، ويا شيخي، منذ بدأت تناقشني في ما أكتبه وأبحث فيه من أمور الحضارة الإسلاميَّة، منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، ويا زميلي في «المركز الثقافي الإسلامي»، منذ ثلاثين سنة؛ أنت تعلم قبلي، بل لعلّك من علَّمني، أنَّ الموت حق. وأنا أعلم معك، وبك، أنَّ المرء، وإن كان عليه أن يموت، فليس على أفكاره وآرائه ورؤاه أن تموت أبداً، طالما هي دفاع عن حق ورؤيا لحق.

عشتَ وجود حق، اكتسبت فيه محبِّين وأصدقاء؛ وعرفت فيه، كذلك، خصوماً ومعارضين؛ فما خنت حقَّاً وما صادقت باطلاً؛ بل حملت حلمك بالحقيقة ومشيت، راسماً به فيض محبَّة على كلِّ من عرفت وناقشت وأحببت وخاصمت.

أيُّها الرَّاحل الغالي؛ نعم الموت حق، وبقاء منهجك الحضاري في مجتمعنا في لبنان، حق بذمَّتنا أن نعمل على بقائه واستمراره وإغنائه.

---------------

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي