من الانقلابات الفكرية المدمّرة التي نعاني في بلادنا «كارثة» تقديم الدين - أو المذهب - للناس جميعا وكأنه اتجاه سياسي مفروض على الأتباع، وبالتالي كل من لم يؤيّد أو يناصر أو يصفّق لهذا الاتجاه فمشكوك في انتمائه للدين.. أو للمذهب.. أو حتى للملّة كلها..؟!
وللحقيقة نقول أن هذه «المفسدة الفكرية» ليست وليدة ليلة وضحاها، ولكنها نتيجة اضطراب فكري وعلمي واجتماعي استقرّ في مجتمعاتنا منذ مئات السنوات وأوصلنا إلى هذا الانهيار..؟!
فالدين سمو فكري وأخلاقي، وحضارة إنسانية عادلة، ومنهج ربّاني مبارك يريد من الأتباع أن يرفعوا حياتهم بكل تفاصيلها ليكونوا على مستوى هذا الرقيّ، وأي تحريف أو تحوير سلبي سينعكس سوءا على صورة الدين في أذهان الناس والمجتمع.
الدين عدل
فالدين ليس رأيا سياسيا..
وليس تحيّزا حزبيا..
وليس انتماء شخصانيا..
وليس بطاقة انتساب إلى فصيل معين..
كما أنه أيضا ليس انضواء تحت جناح حاكم «نجمّل» كل أخطائه بشعارات دينية..؟!
صحيح أن الدين ليس بمعزل عن السياسة، ولكن علاقته بها هي علاقة الموجّه والمراقب والساعي للإصلاح، فالله تعالى قد أمرنا فقال {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، وأي أمانة أكبر وأعظم من صيانة حقوق الناس..؟!
فالدين يرفض ظلم الساسة.. ويطالب بالعدل..
ينكر فساد المسؤولين.. ويرفع لواء المحاسبة..
يواجه تسلّط الجبابرة.. ويسعى لإنصاف المظلومين..
يكشف زيف المتآمرين.. ويأمر بإعادة الأمانات لأصحابها..
ولا يقبل بتقديم المصالح الخاصة على حساب مصالح العامة..
وهنا قد يقول قائل... لماذا يتدخّل كل رجال الدين في السياسة إذن؟!
فنقول: نحن لا نريد من رجال الدين والعلماء أن يتدخّلوا بالسياسة، ولكن أيضا لا نريد من رجال السياسة أن يتدخّلوا بالدين، ويا ليتنا بدلا من إيصال رجل الدين إلى السياسة نوصل الدين كفكر عادل وإنساني إلى عقل السياسي فيكفّ عن ظلمه وفساده..!؟
ولا نقصد هنا بالسياسة مصالح الناس التي تُغتال كل يوم من قبل السياسيين، حتى بات المواطن في بلادنا مقهورا ومحروما ومظلوما ومعدما، فهذه مظالم وواجبٌ على كل من فهم الدين أن يطالب بها، ولكن نقصد بالسياسة (مفهومها اللبناني؟!) أي دهاليز الكذب والنفاق والمصالح الضيقة التي تقوم على مبدأ الأنانية والإقصاء..
إن الشعب اللبناني بغالبيته ضحية لعشرات السنوات من الكذب والدجل، حتى بات اليوم في بلادنا ملايين من البشر الذين لا يرون تحقيق مصالح الدين إلا في انتخاب سياسي معيّن أو زعيم محدد، وبدلا من أن يكون الوقوف مع الحق أينما كان لنصرته، رأينا الوقوف مع الأشخاص في مواجهة الحق.
نتائج كارثية
أيها السادة الكرام.. إن الدين أعظم وأكبر وأجلّ من أن نجعل تحقيقه مرتبطا بانتخاب زعيم أو الترويج لرئيس أو نصرة شخص معيّن فقط لأنه من طائفتنا أو مذهبنا أو رأينا السياسي.
ومن نتائج هذه الإبليسية الفكرية التي تمّ الترويج لها منذ سنوات كثيرة ثم زرعها في أذهان الناس والشباب خاصة، أن عددا كبيرا منهم بات يربط الدين بصورته النقيّة، بتصرفات فلان وعلّان من السياسيين أو رجال الدين أو العلماء، فكانت المحصلة أن رُميت كل أخطاء فلان أو علّان - ومن خلال اللاوعي الشعوري عند هؤلاء الشباب - على الدين نفسه..؟!
فإن ظلم في حكمه... قالوا الدين ظالم..
وإن اعتدى... قالوا الدين وحشي...
وإن أخطأ فبُرّر له... قالوا دين محرّف...
حتى ابتعد الناس عن الدين ولجأوا إلى كل فكر آخر...؟!
نعم أيها السادة.. نحن شوّهنا الصورة في عقول الناس ثم قلنا لهم كونوا من أهل الدين، فكان كلامنا ظلما.. وعملنا ظلما.. ودعوتنا ظلما.. وتبريرنا ظلما... ومع ذلك لا نريد العودة إلى الحق والاعتراف بأخطائنا..؟!
بل تمادينا في الظلم حتى صوّرنا للناس أن الدفاع عن الظالم عدل... فقط لأنه من مذهبنا أو طائفتنا أو ديننا، فرحنا نبرّر لكل سارق... ونبرّئ كل مجرم ... ونغطّي فساد كل فاسد... ونسكت عن خطأ كل واحد (منا؟!).. ونسينا أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قد قال (وَأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)..
يا كل سياسي.. ويا كل رجل دين... ويا كل عالم في بلادنا...
هل وصل إلى مسامعك أنين المرضى الذين لا يجدون علاجا فقط لأنهم... لا يؤيّدون فلان أو علّان من الزعماء الذين قدّمتهم إلى الناس بصورة (الأولياء الصالحين)..؟!
هل سمعت بأذنيك «الصمّاء» بكاء الأطفال الذين لا يجدون قوت يومهم فقط لأن أهلهم لا ينتمون إلى حضرة (السياسي القديس) الذي أمرت الناس بانتخابه..؟!
والمؤسف أن رغم كل المآسي والمعاناة، لا زال بيننا كلبنانيين حتى اليوم من يرى في زعيمه كل «الدين»... وفي اتباع زعيمه «كل الطقوس».. بل ويرى في طاعة زعيمه.. طاعة للّه..؟!
أيها الشعب اللبناني... يقول النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»، نعم قد يكون الخيار مفروضا لإذلالكم... ولكن صدّقوني.. العيش بكرامة ليس خيارا.. بل هو قرار لا يحققه إلا الأقوياء الذين عرفوا أن الدين حق.. وأن الحق لا يناصر الظالمين ولو كانوا أولي قربى، ولذلك قال المولى تبارك وتعالى {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}..
والمطلوب منا جميعا تغيير الفكر والسلوك، وكما قال مالك بن نبي: «وإنها لشرعة السماء، غيرّ نفسك تغيّر التّاريخ».