بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 حزيران 2019 12:04ص متى نحسن تخريج دعاة يقولون الحق ويعملون للحق... ويسعون لتحقيق النهضة الشاملة؟!

في ذكرى 21 لرحيل إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي

حجم الخط
في مثل هذه الأيام تمرُّ علينا الذكرى 21 لوفاة إمام الدعاة العالم المجدّد الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى، وهو الرجل الذي رحل عن دنيانا يوم 17 حزيران 1998 تاركا خلفه إرثا إسلاميا قيّما لا يزال العالم العربي كله ينهل من معينه حتى يومنا هذا كدلالة واضحة على مدى التأثير الطيب الذي تركه هذا الكبير في نفوس وعقول وفكر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها...

فالشيخ الشعراوي - رحمه الله تعالى - الذي فرّغ حياته كلها لخدمة كتاب الله تعالى لم يكن دخوله مجال الدعوة ميسَّراً أو سهلاً، بل شاقاً وصعباً لأنه جاء في فترة زمنية مليئة بالمشاكل والمصاعب والمعوّقات التي تعترض طريق الدعوة والدعاة والتي قد تصل بصاحبها إلى مرحلة السجن أو حتى الإعدام كما حصل لكثيرين من أبناء عصره، ولكنه رفض الواقع الفاسد والمظلم وانتفض كما عدد من العلماء الثقات معه وراح يظهر للناس مواطن الباطل في الحياة التي يعيشونها حتى لا يكون شاهدا على زور أو بهتان أو فساد أو ظلم أو جهل...

التميّز صفته

والشيخ الشعراوي - رحمه الله تعالى - في دعوته كان متميّزاً ومجدّداً ومتفرّدا في أسلوبه، فهو دخل مجال الدعوة من خلال خواطره حول آيات القرآن الكريم، وهي ليست تفسيراً وإنما خواطر كما أسماها الشيخ الشعراوي نفسه حيث قال: «خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيراً للقرآن، وإنما هي هبات صفائية تخطر على قلب مؤمن في آية أو بضع آيات، ولو أن القرآن من الممكن أن يفسر، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بتفسيره لأنه عليه نزل وبه انفعل وله بلغ وبه علم وعمل وله ظهرت معجزاته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بأن يبيّن للناس على قدر حاجتهم من العبادة التي تبيّن لهم أحكام التكليف في القرآن الكريم...»، وهذا الكلام دلالة على مدى الحرية التي تمتع بها الشعراوي بحيث لم يعتبر كلامه تفسيرا وإنما اجتهاد قد يصيب به ويخطئ.

ومن تميّزه أيضا أنه الداعية الوحيد الذي فسّر القرآن الكريم كاملاً تفسيراً صوتياً، وهذا الأمر يُعَدُّ سابقة تميّز بها الشيخ الشعراوي، فهو ومنذ تفرّغه للدعوة إلى الله تعالى أدرك أن للإعلام دوراً كبيراً في توجيه المجتمع وتعليم أفراده وزيادة ثقافتهم الدينية، لذلك جاءت اللقاءات الإعلامية التلفزيونية الأسبوعية للشيخ الشعراوي والتي كان من خلالها يلقي بخواطره حول القرآن الكريم، وبالتالي نستطيع أن نقول أنه العالم أو المفسر القرآني الوحيد الذي قام بعملية التفسير من خلال إطار شفهي مرئي عبر شاشات التلفزيون في ذلك الوقت، والذي كان له تأثير في زيادة احترام المرجعية الدينية عند المجتمع المصري. فالشيخ الشعراوي هو شيخ عمود الأزهر الذي يظهر على شاشة التلفزيون والذي ما لبثت حلقاته أن امتدت من الجامع عبر الشاشة إلى شرائح الشعب المختلفة بل وتعدَّت إلى سائر المنطقة العربية والإسلامية. ونخلص من السابق بنتيجة هامة جداً، ألا وهي أن أول سبب في استمرار صورة الشعراوي حتى الآن يرجع إلى أن تعريفه للشعب المصري جاء من خلال الصورة أي التلفزيون، فالعامل المرئي والبصري كان العلامة الواضحة في إبراز هذا الشيخ الداعية، وليس عامل الكتابة أو الخطابة في المساجد أو معارضة نظام الحكم، ومعظم من قام بذلك في عصر الشيخ الشعراوي لا يكاد كثير من الناس يعلمهم، فالمعرفة بهؤلاء الشيوخ والعلماء والدعاة الآخرين كانت من خلال نصوصهم المقروءة والمسموعة، وليست من خلال نص مرئي كما هو الحال مع الشيخ الشعراوي، ولكن للحق أيضا نقول أن هذا التفسير الصوتي المتميّز أساء بعضهم استخدامه، خاصة حين قاموا بتحويله إلى نص مكتوب، بحيث سارع بعض تجار الكتب ونظراً لشهرة الشيخ الشعراوي ومحبة الناس له إلى تحويل بعض ما سمعوه إلى نصوص مكتوبة ونشرها تحت عناوين مختلفة في الأسواق، الأمر الذي جعل الشيخ في كثير من الأحيان يتبرأ من بعض هذه الكتب التي تسيء إليه وتقدّم مفاهيم مغلوطة.

وكذلك من معالم تميّز منهجه في خواطره أنها شمولية الطابع حيث كان رحمه الله تعالى يعتمد على الاستقراء ويطلب العلم من كل طرقه ومنابعه فيقرأ في جميع العلوم ثم يوظف كل ما سبق في خدمة القرآن الكريم حتى يوصله إلى الناس بأسلوب بسيط ميسّر، يمكنهم من الالتزام به عن اقتناع تام فتكون عباداتهم عبادة العالم لا عبادة الجاهل المعتمدة على التقليد، وهذا الأمر جعل الشيخ الشعراوي يوظف كل ما أتيح له من معارف وعلوم في خدمة آيات القرآن الكريم، وذلك لأنه كان يعلن وبصراحة تامة أن القرآن الكريم يصطدم مع الجهل ومع الشك ومع الظن ومع الوهم ومع التقليد ولكن القرآن لا يصطدم أبدا مع العلم ذلك أن منزل القرآن هو خالق الكون، وما دام القائل هو الخالق فلا بد له أن يعلم ما لا نعلم، ولا بد أن يتفق القول مع العمل.

أثر علمه باقٍ

ولعل أبرز ما يمكن ملاحظته في تراث الشيخ الشعراوي أن الناس جميعا باختلاف طبقاتهم وعقولهم ومستوى تعليمهم ومناصبهم ما زالوا حتى اليوم يستعينون بعباراته ومقولاته ويسعون لإبرازه إعلاميا كنوع من الدلالة على أمر حياتي يعانون منه... وأدلّ الأمور على تلك الاستعانة هو ما رأيناه في مصر منذ إندلاع ثورة 25 يناير وحتى اليوم، حيث انصب عمل كثير من القنوات الفضائية والإذاعات ومواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي على اقتباس أقواله للتعبير عمّا يعانون منه من أزمات أو مشاكل تعيق تقدّمهم...

ومنها مثلا قوله: «إن الثائر الحق هو من يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد...» وهي المقولة التي سادت عبر الشاشات المصرية والعربية بعد ثورة 25 يناير وتناقلتها الكثير من وسائل الإعلام...

ومنها أيضا قوله: «لا أنتمي إلى حزب ديني لأنني أرفض أن يستجدي عطفي مستندا على وازعي الديني قبل أن يخاطب عقلي، فهو حزب سياسي قبل أن يكون ديني، وبالتالي هو يمثل الفكر السياسي لأصحابه لا للمسلمين...».

ومنها كذلك قوله: «إذا رأيتم رجل علم أو دعوة يستميت على الحكم.. فلا تولّوه».. وغيرها الكثير من الكلمات والمقولات التي إن دلّت فإنما تدلّ على فكر هذا الرجل الكبير الذي أعطاه الله موهبة قلّ نظيرها وبلاغة ندر مثيلها...

ماذا بعد؟!...

ولكن يبقى السؤال الأبرز... لماذا نكتب هذه الكلمات عن رجل أخذ من الدنيا ما كتبه الله تعالى له وأعطاها ما يسرّه المولى له...؟!

طبعا.. لسنا هنا في مجال استعراض للأعمال والفضائل التي قدّمها الراحل الكبير الشيخ الشعراوي لأمّته، ولسنا في وارد الحديث عن الثواب الذي ناله أو سيناله جزاء لما قدْم، فهي أمور ليست في يد عبد من عباد الله وإنما هي فقط في علم الخالق وحده، فهو الذي يعلم ما تبدي النفوس وما تخفي وهو سبحانه من سيجازي الناس على أعمالهم...

ولكن ما نريد إظهاره هنا هو أنه علينا الاستفادة من سيرة وعلم هذا العالم الكبير وأمثاله في حياتنا حتى لا نكون عالة في مجتمعنا المليء بالعالات...

فنحن الذي أكرمنا الله تعالى بالإسلام لا يجوز لنا بأية حالة من الحالات أن نكون مجرد مخلوقات مرَّت على هذه الدنيا ثم رحلت.. بل علينا أن نسعى بكل الوسائل الممكنة لنكون من أصحاب التأثير البنّاء والإيجابي ليس في مجتمعنا فحسب وإنما في المجتمع الإنساني كله... فلا نفعل إلا ما يفيد ولا نقدّم إلا ما ينفع ولا نقول إلا ما فيه الخير ولا نسعى إلى التقدّم والإصلاح ولا نشارك إلا في المعروف... وبديهي ألا نخالف من خلال مناصبنا وكراسينا ما أمر الله به...؟!؟

وعلينا أن نعلم تمام العلم أن الأمة التي أخرجت بفضل الله تعالى للعالم كله أمثال الشيخ الشعراوي والشيخ الغزالي وغيرهما لا بد أن تستمر في مسيرة كرمها على البشرية جمعاء وتقدّم أجيالا جديدة من الدعاة الذي يحملون شعلة النور إلى بلادهم أولا وإلى العالم كله ثانيا كخير دليل على قوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}.

ومن خلال سير الكبار من أبناء أمتنا نتعلم ونعرف المعرفة اليقينية العملية لا القولية أن الداعية إلى الله تعالى إنما هو أصدق الناس وأبرّ الناس وأفضل الناس وأحسن الناس وأعلم الناس وأشرف الناس وأطهر الناس وأكثرهم إخلاص لله في العمل والقول والعبادة ...؟!

إننا في ذكرى رحيل إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي نحتاج وبشدّة إلى دعاة يقولون الحق خالصا لله تعالى ولا يخشون في الله لومة لائم...

ونحتاج إلى دعاة.. أهّلوا عقولهم ونفوسهم وفكرهم للدخول في عالم الدعوة إلى الله فكانوا منارات هدى ومشاعل علم ونور... لا مراكز إظلام لحساب فلان أو علان...؟!؟!

ونحتاج أيضا إلى أناس يبتغون من وراء العمل الدعوي طاعة الله ونصرة دينه ورفعة هذه الأمة... لا طاعة النفوس ونصرة الزعماء ورفعة المناصب والكراسي...؟!

شيخنا الكبير.. رحمك الله تعالى... فما زال كلامك في النفوس حاضرا... وكم نتذكر مقولتك الرائعة «لا تتكالبوا على الحكم والكراسي... فإنه لن يحكم أحد في أرض الله إلا بمراد الله».. ولكن... يا ليتهم يفقهون...؟!؟!