بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 تشرين الثاني 2017 12:07ص مخطوط يعود لسنة 1896م بخط يد ثريا بنت مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري

حجم الخط
لم يتبين قبل سنة 1900  أن إحدى بنات  بيروت  تابعت دراسة ثانوية  ولم يظهر أن واحدة كتبت مقالة أو نظمت قصيدة أو خطّت مذكرات، وقد يعود ذلك الى أن الطبقة الفقيـــرة لم يتيسر لها تعليم صبيانها فما بالك  ببناتها وأن شريحة منها دفعت أولادها الى الكتاتيب والشيخات في المحلة لحفظ سور قصيرة من القرآن الكريم والقليل من جدول الضرب، وينتقل الصبي بعد الكتّاب لمساعدة والده في دكانه وصنعته وتقرّ البنت في البيت مع أمها وجدتها وعماتها. ودفعت الطبقة الثرية أولادها الى مدارس الأجانب. يمكن القول بأن الطبقة الأولى لم تتيسر  لها فرصة تعليم أولادها قبل تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت سنة 1878م.
نشأت ثريا ابنة مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري في بيت شهد مجالس درس وعلم وتفسير وإفتاء. وقد دعا والدها الى تعليم الصبيان والبنات وكان أخوها الاكبر الشيخ علي ناظر مدرسة البازركان للصبيان وشارك أخوها الشيخ محمد بتأسيس جمعية المقاصد  وبرع شقيقها حسن مفتش شعبة المعارف في الفقه والعلوم. ومن المرجح أن ثريا فاخوري التي ولدت حوالي سنة 1883م ونالت قسطاً من التعليم والتربية من والدها وأشقائها ، قد تابعت دروساً في مدرسة البنات الأولى التي فتحتها الجمعية في محلة الباشورة بالقرب من بيت والدها. وشجع ما آنس منها والدها من متابعة ومثابرة على تكليفها بنسخ بعض المخطوطات له . ولم يصل الينا مما نسخته إلاّ مخطوطان الأول كتبته في جمادى الثانية سنة 1314 هـ/1896 م و يتعلق بما كتبه أبو البركات عبد الله السويدي ناقلاً رسالة كتبت سنة 1163هـ/1749م من صفية ابنة حسن باشا وشقيقة أحمد باشا والي بغداد. والمخطوط الثاني كتبته في 5 رجب 1314 هـ/1896 م حول ما نقله محمد سعيد السويدي البغدادي عن قول والده في «النفحة المسكية في الرحلة الملكية» من مناظرة فقهية بين العلماء .وذكرت كاتبة المخطوط  بعد الفراغ من نسخه أنه «على يد الأمة الفقيرة ثريا فاخوري زاده مفتي بيروت وأوردت بيتين من الشعر هما:
مذنب خطّه عسى             دعوة غير خائبه
رحم الله قائلاً                  رحم الله كاتبه      
الكتاتيب والشيخات والمدارس في  القرن التاسع عشر
يذكر انه منذ منتصف القرن التاسع عشر أخذ عالما بيروت الشيخــــان محمد الحوت وعبد الله خالد على عاتقهما مهمة نشر العلم والتفقه في الدين وتشويق الأغنياء والوجهاء الى تعليم أبنائهم العلم للدين والدنيا، والدعوة للتضامن بين افراد المجتمع من أية طائفة كانوا. وفيما كانت الطوائف المختلفة قد الفت جمعيات خيرية تقوم بمصالحها كافتتاح المدارس وخصصت لتلك المدارس الأبنية والمعلمين وعلمت لغات الأجانب وعلوم الطب والجراحة والكيمياء والرياضيات، كانت  الطائفة الإسلامية كما جاء في الفجر الصادق غافلة عن ذلك مقتصرة على بعض زوايا مهجورة مملوءة بالعفونة والرطوبة مما يضر بصحة الأولاد، ومن المعلمين على المشايخ العميان، ومن الأطباء على أناس من الحلاقين والحجامين. 
يذكر أن أحد ابناء العيال أخبر الشيخ عبد الله خالد بما يجده أبناء المسلمين في مدارس غير المسلمين وأكده المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في المجالس  التي القاها خلال  شهر رمضان سنة 1875م في الجامع العمري الكبير (طبعت بعنوان المجالس السنية). قال في المجلس الثالث «الحذر الحذر مما اعتاده جهلة الناس في هذا الزمان وهو أنهم يخرجون أولادهم من المكاتب التي يتعلمون بها القرآن قبل اتقان  تعلمهم وتجويدهم للقرآن وقبل تعليمهم عقائد الدين وأحكام العبادات، فيذهبون بهم الى مكاتب الأجانب عن الدين والوطن لتعليم الحساب والهندسة وبعض اللغات وخلافها وهذا رضاع ثالث بعد رضاع المؤدب وقد قيل : الرضاع يغير الطباع... والصبي في هذه السن قابل لكل ما يلقى اليه مثله مثل الشمع اي شيء عملت عليه طبع فيه.. وأقبح من ذلك كله أنهم يضعون بناتهم الصغار في هذه المكاتب لأجل تعليمهن...». 
وكانت هذه الدعوة حافزاً لتأسيس جمعية المقاصد ومما قاله  حسن بيهم امام مدحت باشا « إن أمر تعليم الإناث ضروري لأنهن المربيات الأوليات للأولاد وعليهن مناط التهذيب ، فإنه لا أمة بلا رجال ولا رجال بلا عائلة ولا عائلة بلا مربّ، وهذا المربي هو الأم التي إن لم تكن متعلمة وهي صبية لا يمكنها أن تربي أولادها وبالتالي لا تتهذب الأمة. وقد هيأ الله للجمعية  انشاء مدرستين للإناث يعلم بهما القراءة والكتابة والأشغال اليدوية لأنها رأت ان الجهل الذي حاق بالبنات أعمّ  وأن البدء في تعليمهن أهمّ «. وتأسست  اول مدرسة للبنات في شوال 1295هـ/تشرين الأول 1878م في بيت قريعة ثم استقرت في دار بملك الحاج محمد بيضون في محلة الباشورة. وتأسست مدرسة البنات الثانية في جمادى الثانية 1296 هـ/حزيران 1879م في سوق المنجدين بدار آل البربير. ولعبت الكتاتيب المنتشرة في الأحياء دوراً كبيراً في تاريخ المجتمع الإسلامي في بيروت ، وكانت الصلة الوحيدة تقريباً بعالم الحرف والكلمة وكان لها الأثر الكبير في الحفاظ على القرآن الكريم وعلى لغة الضاد. وقد تخرج منها اعلام من سلفنا  الصالح الذين ملأوا الدنيا ثقافة وعلماً وأدباً (لنا دراسة عن كتاتيب بيروت).   
ففي كتّاب الشيخة سارة بيضون في الأشرفية اعتادت اذن الفنانين محمد وأحمد فليفل على الإيقاع القرآني. وفي كتّاب الشيخة حليمة الفيل حفظ الدكتور عمر فروخ بعض قصار السور من التنزيل الكريم. وفي كتّاب الشيخة جمعة تعلم الفنان مصطفى فروخ رسم الحروف العربية. ومن الشيخة حفيظة كرّيم اتقنت عليا ء الصلح وشقيقاتها  تلاوة القرآن الكريم. فيما كانت الشيخة علياء العدو مكداشي  في رأس النبع والشيخة أم علي شملي في المزرعة  وسارة بيضون في الأشرفية، وعائشة غنوم في رأس بيروت  ونظيرة شقيقة الشيخ عبد الرحمن سلام يسهرن على تحفيظ الأولاد قصار السور. روت لي احدى خريجات كتّاب المعلمة فاطمة فحام (البسطة التحتا) ان الدرس الرئيس كان تعليم وتحفيظ القرآن الكريم. كانت البنات يأتين يومياً بمداسهن ، فيخلعنه عند عتبة الصف وتلبس كل واحدة مشّاية كانت قد أحضرتها سابقاً الى المدرسة ، فتدخل بها وكان يوم الختمة كيوم العرس: تلبس البنات فساتين بيضاء، وتضع كل منهن على رأسها طرحة مقصّبة (مذهبة) ويسرن في طابور، تحمل كل واحدة مبخرة تفوح منها رائحة البخور ، ويسرن من غرفة الى غرفة وهن ينشدن ثم يدخلن الى القاعة المخصصة للفحص الذي تؤديه كل واحدة منفردة. فتبدأ بالقراءة وعندما تنتهي الى ما هو محدد لها تقترب المعلمة وتضع المصحف على رأس القارئة أو الخاتمة ثم ترفع الطرحة عن رأسها وتسلمها الى أمّها التي تنقدها هديتها . يذكرنا المصحف فوق الطرحة بالكاب Cap   الأسود والقبعة التي يضعها حديثاً خريجو الجامعات في أوروبا.
ولم يكن غياب التعليم والمدارس مانعاً المرأة البيروتية من ان تساهم في اعمال البر. فقدمت عشرات  الاوقاف على المساجد. وقفة الخبز التي كانت توضع في دكان في سوق الفشخة (شارع ويغان) ويوزع منها الخبز بعد صلاة الجمعة على فقراء المدينة.وأوقاف لفقراء الحرمين الشريفين. ولعائلات الذين استشهدوا في حرب البلقان. 
وظهرت البيروتية في المحاكم كمدعية ومدعى عليها كما أنها عينت متولية على بعض الأوقاف دلالة على قدرتها في إدارة الوقف وصيانته والسهر على تنمية موارده وتوزيع ريعه بين المستحقين. وقد عرف ممن تولى الوقف ملكة سبليني وعائشة خالد حمود وسعدى محمد الطرابلسي ورحمة سعيد المكداشي وعزيزة محمد علي يموت  وغيرهن. 
إقبال  بنات بيروت على الآداب والعلوم
وخرجت فتيات المدينة إلى النور والعلم والجهاد ، لمحاربة الجهل والتقاليد والعزلة،  وقرون من تحميل المرأة ما حلّ ويحلّ بالإنسان منذ الهبوط من الجنة إلى يوم الدين .وقد بدأن ببث أفكارهن من خلال مقالات نشرت في صحف بيروت بين  سنتي 1912و1914م. ففي أيار 1912م نشرت المفيد مقالاً «لفتاة بيروت» موضوعه «الإنسان ابن المشقة» لسلوى محمصاني أحدى فتيات  مدرسة الإناث للمقاصد.وفي تموز 1912م ألقت عنبرة سليم سلام خطاباً في مدرسة جمعية المقاصد الأولى بعنوان «ما هي الغاية من الحياة». وفي آذار 1913م نشرت المفيد «الإئتلاف» لوداد محمصاني من تلامذة مدرسة الإناث للمقاصد الخيرية. وفي تشرين الأول  1913م نشرت المفيد «نهضة الفتاة العربية» بتوقيع «فتاة بيروت تبين أنه لعنبرة سلام، كتب بمناسبة المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس. أدى هذا الحماس لدى الفتيات إلى الرغبة في إنشاء جمعية. وسميّن أنفسهن «سبطات  الأمير عبد القادر الجزائري» وأسسن جمعية «يقظة الفتاة العربية». أوقفت الحرب  نشاطها. وفي سنة 1917م عادت الفتيات إلى تأسيس نادٍ اجتماعي تقام فيه الحفلات الأدبية عرف «بنادي الفتيات المسلمات» واتخذن له مركزاً في بيت بشارة الخوري وعهدن بادارته الى المربي محمد عمر منيمنه. ذكر الشيخ مصطفى الغلاييني» كان إنشاء نادي الفتيات المسلمات أثناء الحرب العامة في بيروت والمدرسة التابعة له، مما أحيا هذه الحركة المباركة تعليم المرأة» وقد كان للمرحوم أحمد مختار بيهم ولرفيقيه في هذا الجهاد: محمد فاخوري وعمر الداعوق أكبر نصيب. ثم  وتزايد النشاط النسائي وأقبلت الفتيات على تعلم الطب والأدب والعلوم فبرعت الكثيرات منهن في الطب والأدب والتربية. 
قبل الختام نذكر ان شعبة المعارف قررت سنة 1322 مالية/1906م انه نظراً لخدمات المرحوم المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وتفانيه وقد ترك ثلاث بنات غير متزوجات ثريا ووجيهة ونجلاء ولا يوجد عندهن ما يقوم بمعيشتهن فخصصت لكل واحدة خمسة وسبعين قرشا شهرياً وترك بنتين ارملتين خديجة وزهرة وليس لهما اسباب معيشة فتقرر لكل واحدة خمسين قرشاً. 
وإذا كان مخطوط ثريا بنت المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري  العائد سنة  1896م هو اقدم أثر معروف  لبنات بيروت فنأمل العثور على غيره من آثار جداتنا  رحمهن الله. 
 *محامٍ ومؤرخ