رغم كل ما يجري من حولنا في المجتمع اللبناني من أزمات ومشاكل وتحدّيات تحيط بنا من كل حدب وصوب، ورغم الظروف الاستثنائية التي تعصف بالناس وتجعلهم في حيرة من أمرهم في مختلف الشؤون الحياتية، بكل أسف ما زال الفكر الديني السائد في بلادنا بعيدا كل البُعد عن مواكبة هذه التحوّلات المفصلية التي نمرُّ بها اقتصاديا واجتماعيا وتربويا وأسريا وتعليميا وصحيا و...؟!
رغم الفقر والقهر..
ورغم الظلم والتسلّط والفساد..
ورغم التفلّت الأخلاقي والسلوكي واستباحة كل المحرّمات...
ما زال الفكر الديني في بلادنا يتعامل مع ما حوله وكأننا في ظروف طبيعية دون أي جهد أو سعي لمرافقة الناس في مأساتهم ومعاناتهم، حتى أصبح الدين الإسلامي الحنيف بما فيه من رقيّ وأخلاقيات بعيدا عن اليومية للناس جميعا، فرغب الشباب عنه وتركوه وفقدوا حسن العلاقة معه حتى صاروا غرباء عنه معتبرين كل أمر متعلق به ليس من شأنهم ولا يعنيهم بل هو أصلا لم يعد مناسبا لأيامهم وزمانهم..؟!
الفجوة الكبرى
وفي خضم كل ما يدور في المجتمع لا نسمع إلا الفتاوى الشاذة... والآراء الفاسدة.. والموضوعات الغثّة.. والأفكار الإبليسية التي تُغلّف بإطارات مزيفة ثم تعرض على الناس دون رقيب أو حسيب، والأسوأ أنها تنشر للناس من قبل هؤلاء الذين لا علم لهم ولا فقه ولا واقعية لطروحاتهم.. فيزداد الجهل جهلا.
الناس تعاني من فقر مدقع.. فيقول المخاطبون لهم (الفقر فضيلة)..؟!
الناس تبكي من انتشار الفساد... فيقولون (الصبر صفة الصالحين)..؟!
الناس تفقد كرامتها وعزّتها وتحرم من حقوقها فيقال لهم (اللهم سننتقم من الظالمين)..؟!
وبدلا من تقديم رؤى متكاملة تشرح للناس موقف الدين الحنيف من هذه الأزمات نشرعن لهم الخنوع ونقنن لهم الاستضعاف..!؟
حتى في تفاصيل الحياة اليومية، والمشاكل الناتجة عن هذا الانقلاب نحن غائبون بفكرنا الديني..؟!
أين نحن من إرشاد الناس في موضوع اختلاف سعر الدولار، ووجود أكثر من سعر له وما يخلّفه من مشاكل بين الناس، وخاصة هؤلاء الذين لهم ديون ولا يعلمون على أي سعر يسترجعونها...؟!
أين نحن من مخاطبة أصحاب العقارات وحثّهم على الصبر على المستأجرين العاجزين..؟!
وأين نحن من البيانات والفتاوى التي تحثّ على الصبر بين الأزواج في ظل الأزمة التي تترك آثارها السلبية في كل بيت من بيوتنا..؟!
ثم أين أدوارنا في إرشاد الناس بفقه الأزمات حتى يعملوا به ويلتزموا بتعاليمه خلال الأزمات المتلاحقة التي نعاني منها..؟!
وما هي معالم الوعي الذي نقدّمه لأفراد المجتمع في أيام نحسات اختلط فيها الحابل بالنابل..؟!
أين نحن من:
حكم الامتناع عن أخذ لقاح كورونا..
وحكم التلاعب بأسعار المواد الغذائية..
واحتكار السلع والأدوية..
وتزايد حالات الطلاق وارتفاع نسبة الخلافات الزوجية..
أين الخطاب الديني من تلهي الناس بفروع الفروع وترك الأصول..
أين هو من نشر وتعميم فقه الأولويات في نفوس الناس..
إننا وبكل صراحة نقول..
لقد أحدث الخطاب الديني في لبنان فجوة كبيرة جدا جدا بينه وبين الناس، وبتنا نشعر أننا بأيدينا ننفر الناس ونبعدهم عن رقيّ هذا الدين الحنيف، وأننا بسوء كلامنا وبسوء فهمنا وسوء تعاملنا مع الأحداث ندفع الأجيال الجديدة دفعا إلى الابتعاد عن تعاليم الإسلام الحضارية..
لقد صوّرنا لهم القرآن كتاب موت وكآبة فقط..
وصوّرنا لهم سنّة النبي الكريم سنّة غزوات وحروب فحسب..
أما الفقه الإسلامي فقدّمناه لهم وكأنه صورة لتناحر الفقهاء فيما بينهم وأن الناتج الوحيد عنه تخطيء الناس وتفسيقهم والحكم عليهم بالكفر والردّة..؟!
وهكذا حتى شاع في أوساط المسلمين قبل غيرهم أن الإسلام ما عاد صالحا للعمل به في الألفية الثالثة، بل هو دين عجز عن مواكبة تطوّرات الحياة ومستجداتها وأصبح عائقا أمام أي تطوّر أو تقدّم محمود.
وازداد الأمر فسادا حين نظر الناس إلى محتوى هذا الخطاب فوجوده لا ينشط ولا يزدهر إلا في الأمور السياسية، فترسخ في أذهانهم أن الدين سياسة.. وأن السياسة مصالح.. فأطلقوا الأحكام على الدين نفسه..؟!
لا تدفعوا الناس للعصيان
إن الناس أيها السادة وصدّقوني..
باتت قاب قوسين أو أدنى من إعلان العصيان على تلك الأحاديث الدينية التي تريدونها عنوة في المجتمع، فهي أصبحت ترى أن الخطاب الديني أمسى عائقا أساسيا أمام أي تفاعل جديّ مع حركة الحياة، فلا تلقوا بهم إلى حيث لا نريد..!!
انظروا إلى مشاكل الناس وإلى همومهم وإلى قضاياهم وبادروا إلى دراستها وتقديم الحلول الناجعة لها كما أمر الله تعالى.. بل وغوصوا في ما تخبئ النفوس من آلام بداخلها وابحثوا عن سبل تخفيفها الفعلية لا القولية حتى يكون الدين كما أراد المولى اطمئنانا وسلاما ورحمة لكل الناس.. فالإيمان الحقيقي هو أن يكون المؤمن قادرا على مواجهة كل المستجدات والسؤال عنها وعن إيجابياتها وسلبياتها ثم السعي لتحقيق التوازن الفكري والنفسي والحياتي في التعامل معها..
وإلا أصبحنا من الذين أخبر المولى تعالى عنهم في القرآن الكريم فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يكتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار}.