مع بداية الشهر الأخير من كل عام، تتسابق وسائل الإعلام في تركيز عملها على ما يخبأه المنجّمون والعرّافون من أحداث وأخبار، والمؤسف ان الكثير من المشاهدين يتمركزون أمام شاشات التلفزة بكل عيون شاخصة لمعرفة ما تخبأه السنة الجديدة من أحداث ومفاجآت.
ولعل المضحك المبكي في المشهد هو حدوث حدث من التوقعات، فتعود هذه الوسائل إلى التذكير بأن ما توقّعه المنجّم فلان والمنجّمة علتانة قد حدث بالفعل، هنا يتخبط المشاهد بين إيمانه وعقله، ولعل الكثير منهم يبنون آمالهم ويعيشون على المفاجأت بحدوث ما توقّعه المنجّم، ولكن نسي هؤلاء ان الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ونسي هؤلاء بأنه «كذب المنجمون ولو صدقوا».
فلماذا يصرُّ الإعلام على إظهار المنجّمين وكأنهم يقرأون الغيب في كل عام؟ وأي دور للإنسان المسلم في الإبتعاد عن هذه الخرافات..؟!
أسئلة عديدة حملتها «اللواء الإسلامي» في جعبتها للشيخ د. وفيق حجازي، فكان هذا الحوار:
الإعلام مسؤول
{ لماذا يصرُّ الإعلام على إظهار المنجّمين وكأنهم يقرأون الغيب في كل عام؟
- لا يخفى على العقلاء أن الإعلام رسالته توعوية تثقيفية هادفة، تعمل على بناء مجتمع متقدّم يراد له الارتقاء والنقاء والصفاء، وهي رسالة عظيمة ودورها كبير في نشر ثقافة ترسيخ القيم والمثل العليا والمبادئ الإنسانية، وذلك في مجتمع متنوّع متعدد، عمل الإسلام على أن يكون نقيّا من التلوث الفكري، فهو مجتمع منصهر ضمن أسس عليا وثوابت راقية، لأن المنهج الإسلامي الرصين كرّم الإنسان وفضّله ومنحه عقلا يعقله عن سفاسف الأمور ومساوئ الخصال والخلال؛ لذلك كانت رسالة الإعلام في الإسلام هادفة راقية تعمل على الصدق في كل شيء وتمجّ الكذب وأهله، لذا بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أهمية عدم نشر الفتن والأراجيف والفاحشة والأكاذيب لأنه يتنافى والمنهج السليم في رقيّ المجتمع ونظافة الفكر وسلامة التصور، وإذا كانت رسالة الإعلام بهذه العظمة في الإسلام فإنه وللأسف في الآونة الأخيرة قد تغيّرت هذه البوصلة في شتّى جوانبها فانحرفت عن مسارها الصحيح، إذ أضحى الإعلام في لبّه وعمومه منطلقا لكل سوء وبابا لكل شر، يعمل على بثّ الأراجيف وتسخيف العقول وإشغال الناس بما لا فائدة من ورائه في برامج شيطانية إفسادية، وإنه وبدلا من التخطيط السليم في رسالة الإعلام للمحافظة على القيم وطرد الغزو الفكري الشاذ تحوّلت هذه الوسيلة لمستنقع تُرمى فيها مهملات السوقة من الناس وتنشر فيها كل سلبيات الآخرين وكأنها تزعم ان الفساد رقيّ وأساس لنهضة الناس بنشر الأكاذيب والأراجيف والإباحية، وهذا أضحى أساسا في هذه القنوات وبكل صفاقة ومجون فتمنح الأوقات المتعددة لها وتصرف الأموال الطائلة لأجلها وهذا مقت وسخف وخبث يتنافى والرسالة الصحيحة المرجوة من فلسفة الإعلام، ولذلك نجد أنه يشغل الناس عن الهدف المرجو إلى الحديث عن الكهّان والمنجّمين والعرّافين الذين يكذبون على الناس ويعلمون أنهم كاذبون؛ لأن علم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فكيف بمن يرجم بالغيب، ومن يسمع له ذلك الرجم، ومن يصغي له كذلك، وعليه فإن كل أولئك مشتركون في الجريمة، وقد حذّرنا القرآن من الإصغاء لهم ومجالستهم، وإلا كنا مثلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى عرّافاً فسأله عن شيء - صدّقه أو لم يصدّقه - لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، وفي لفظ آخر: «من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد»، والعجب أنه تستخدم أزمات الناس ومعاناتهم بابا لاستنزافهم وتسفيههم والكذب عليهم دون وجل ولا خجل وهذا دليل إفلاس وعنوان تبعية عمياء وغوغائية ممقوتة يأباها ذوو الفكر والعقل والخُلق القويم.
لا يصدّقهم إلا الضعيف
{ لماذا يتجه الناس الى تصديقهم علما انهم لا يبشّرون إلا بالكوارث؟
- أما مسألة تصديقهم فلا يكون إلا من ضعيفي الإيمان فضلا عن فاقده، ومن جاهل بالحقيقة عوضا عن دعي لمعرفتها، فالإنسان السويّ يعلم بداهة أن فاقد الشيء لا يعطيه، وأن العاجز لا يرفع مثله، فكيف بمن يعيش في كنف الله عالم الغيب ويزعم رجما بالغيب علمه والله تعالى هو {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَال} لا يخفى عليه شيء؛ لأنه خلقه والمخلوق عاجز عن إدراك الغيب عنه ولو للحظة، وإنه وبالاستقراء يكتشف العاقل كذب أولئك وعجزهم عن معرفة ما يفد من قابل الأيام؛ لأن الله لم يظهر على غيبه أحدا، وقد أطلع الله رسوله على بعض منه فقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، فالمتحدث بالغيب كهانة وعرافة وتنجيما كاذب وفاسد، يقتات على أزمة عقول ويظهر بسبب جهل في المعقول، وقد ظهر جليّا لكثيرين أن أولئك الدجاجلة في ترّهاتهم وإن وقع بعض من كذباتهم فهم كاذبون، وتصديقهم في كذبهم مشكّل عقديا وأخلاقيا وإنسانيا، وينتج عنه جيل يتربّى على ضياع، ويتعلق بسراب، ويؤمن بخرافات، وتلاعب به بسخافات، فضلا أن عليه أن يقمع هذه الأبواق، ويمنع نفسه من متابعتها وتضييع عمره ودينه بتصديقها وسماعها.
فسَمعَك صُن عَن سماع القبيح
كصون اللسان عَن النطق به
فـإنـك عـنـد اسـتماع القبيح
شــريـك لقـائلـه فـانـتـبـه
الرقابة الغائبة
{ أين دور الجهات الرقابية خاصة ان هؤلاء يثيرون الرعب في نفوس المواطنين، ولماذا لا يتم منعهم...؟
- للأسف في لبنان لا توجد رقابة حقيقية على البرامج الإعلامية بل الرقابة تعمل على منع أو تقييد البرامج الهادفة لذا لا نجدها في قنواتنا الإعلامية، ولو كان عندنا رقابة حقّة لكانت برامج كثيرة منعت ومقدموها عوقبوا وقنواتهم غُرّمت، إن لم تحجب، وهذا للأسف مفقود في المؤسسة الإعلامية، ثم من هو المؤهّل ليكون مراقبا على هذه البرامج، وهو في حدّ ذاته ليس أهلا لهذا المكان؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فمن يراقب مَن؟ وعلى من؟ وبمن؟ وما هي الكيفية والحيثية والمنهجية للرقابة؟!.. وإن المشكلة الرقابية في النصوص كما في النفوس، وخاصة ونحن في بلد إعلامه مسيّس ومحزّب ومجزّأ، وموجّه ضد أبناء الوطن نفسه، حتى ما يسمّى بالإعلام الرسمي يعيش في فضاء آخر يحمل من السوء ما يحمله الإعلام الخاص.
{ أي دور للمسلم في الإبتعاد عن هذه الخرافات وتوعية أبنائه منها..؟
- إن لزاما على المسلم بداهة أن يَحذَرَ من هذه الأراجيف وأن يواجه كذلك هذه الخرافات، لأن الوقوف ضد المرجفين والمفسدين مطالب به المسلم لحماية مجتمعه من الدجاجلة، وبما أن من العقيدة الإيمان بالغيب وأنه لا يعلمه إلا الله القائل في كتابه {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} فهذا تحذير قرآني لكل من شاركهم بالمتابعة والإصغاء بل والتصديق فضلا عن المرجفين أنفسهم والداعمين لهم ماديا ومعنويا وقد حذّر سبحانه من أولئك بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياَتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، وعلى الدعاة كذلك التحذير من المنجّمين والكهنة ذلك أن الذكرى تنفع المؤمنين، فالإسلام دين يحترم العقل ويقدّر أهله ويجرّم من يتلاعب بالعقول ويرجف بالناس في حياتهم، لذا ومن باب سد الذرائع كان واجب المسلمين التحذير ممن يرجمون بالغيب وهذا هو دعوة إلى الله وإنكار للمنكر لتغييره لقول الله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}.