أن يبدأ المركز الحسيني في لندن بإعداد موسوعة ضخمة بخمسمائة مجلد لتوثيق ما كُتب عن الإمام الحسين عليه السلام، والحدث الكربلائي على مدى ألف عام، فلهذا دلالته الإنسانية العميقة المتصلة بقِيَم الحرية والعدالة، ومقاومة الظلم والفساد من جهة، ودلالته المعرفية لفهم الإسلام التوحيدي القرآني وبناء الأمة الواحدة الشاهدة من جهة ثانية.
وما من شك في عنصر القوة في عاشوراء هو في اعتبارها قضية كل المسلمين، بل قضية كل إنسان طامح للكرامة والتحرر من جميع أشكال العبوديات التي تسللت إلينا في عصرنا الحديث تحت مسميات الحرب الناعمة، وقد أصبحنا جزءاً من أدواتها بعد أن تراجعت في حياتنا ثقافة المناعة، وثقافة المقاومة التي صنعتها مدرسة الإمام الحسين ونهجه يوم قال: «والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».
وهذا ما يدعونا الى أن نقرأ ثورة الإمام الحسين عليه السلام قراءة جديدة تقارب هذه المرة علاقة البصيرة بالمسؤولية، لنخوض معركة إقصاء المسلمين عن التاريخ من جهة ومعركة إقصاء القِيَم عن لبّ الحضارة الحديثة من جهة أخرى.
هذه القراءة الجديدة تستدعي تصحيح علاقتنا بالإمام الحسين عليه السلام، لتكون علاقة كاملة وغير منقوصة لا تتجزأ كرسالة، ولا تنفصل كمنهج عن مواجهة التحديات الراهنة، ذلك أن كربلاء الرسالة تختزن كل المعاني الإسلامية الأصيلة، وكربلاء النهج تتجدد فينا وتتسع لتشمل كل آلام المظلومين والمحرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية.
فلا يمكن لقضية كبرى بحجم قضية الإمام الحسين عليه السلام أن تستمر في الزمان إلا في ضوء استمرار القراءة التي تتخطى زمن المأساة الى زمن الموقف من قضايانا الكبرى بفلسطين. أوليس حضور المقاومة بفلسطين هو الاستمرار المتألّق لحضور الإمام الحسين عليه السلام الواقف معنا ضد الاستسلام للأمر الواقع الزائف وضد التطبيع مع مشاريع الاحتلال؟!
إن الثبات والاستمرار على مبادئنا العليا هو هدف الإمام من ثورته التي أضاءت وفي بضع ساعات فقط معاني الحق والخير والجمال ضد كل باطل وشر وبشاعة.
ولا نستطيع أن ندّعي بأننا امتداد لنهج الإمام الحسين عليه السلام، إذا لم تكن عقولنا وقلوبنا امتداد يستضيء بعقل الإمام وقلبه، ولا يمكن أن نتواصل مع روح الإمام الحسين عليه السلام إذا كنا عاجزين عن التواصل فيما بيننا، وهذا المفتاح الذهبي لقراءة جديدة وضعت يدها على شرط الوحدة لتحقيق شرط المناعة وشرط المسؤولية وشرط الانتصار.
إذن عاشوراء ليست هذه الليالي العشر وليست هذه الاحتفالات المحدودة من موسم إلى موسم، فعاشوراء مدرسة دائمة ومفتوحة على كل العصور أستاذها الأول الإمام الحسين عليه السلام، وبرامجها العظيمة حقوق الإنسان، الإنسان الذي أنيط به أن يكون خليفة الله في الأرض، وهي مسؤولية ضخمة لا يستطيع الإنسان أن ينهض بأعبائها من دون أن يمتلك الكرامة والحرية.
وضمن هذه القراءة الجديدة فإن ثورة الإمام الحسين عليه السلام، ثورة من أجل رد الاعتبار لنظرية الاستخلاف الرباني على الأرض من جهة، واسترجاع الأمانة التي عرضت على السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ، وبهذا المعنى نستضيء من المغزى العميق من فلسفة الجانب الإنساني من عاشوراء، ولهذا كان الحزن تعبيراً عن تثبيت قيمتها الإنسانية وترسيخها في وجدان الأمم والشعوب، فإذا استطعنا أن نفهم علاقة هذه الثورة بالمضمون والجوهر لوجود الإنسان على هذه الأرض جاز لنا أن نقول كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء.
ومن هنا بالذات نطلّ على الواقع اللبناني ومأساة لبنان، حيث ان ما وصلت إليه الحال من فلتان على كل الأراضي اللبنانية وما يحدث من صراعات مشبوهة ومفتعلة ووقائع وأحداث تصب كلها في تأجيج الروح المذهبية والطائفية التي بدأت تحدث بذور شقاق وتطرف ونزاعات وكراهية واستغلالاً للدين وطوائفه ومذاهبه في النزاعات السياسية، بحيث أمست تشكّل تهديداً مباشراً للسلم الأهلي مما يستدعي منا جميعاً ومن روح ثورة الإمام الحسين عليه السلام العمل للإصلاح والتغيير والتأكيد على الحوار الوطني حول القضايا الخلافية، وعلى دولة المواطنة والتنوّع، وتحقيق وتعزيز السلم الاجتماعي اللبناني، والتمسّك بالميثاق الوطني اللبناني، مع الإصرار على المساءلة والمحاسبة لكل من عبث بمقدرات الوطن والمواطن، ومن كل ذلك نصل الى الخلاص الوطني.
* الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب