بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 حزيران 2018 12:03ص ملابسات وخفايا تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية

حجم الخط
كان تأسيس جمعية المقاصد - وكذلك حلها فيما بعد – مشحوناً بألغازٍ محيّرة ، وأسرارٍ غامضة لم يكشف النقاب عنها، لأنها ترافقت مع تولّي مدحت باشا لولاية سورية وما قيل عن تطلعاته وطموحه، ثم حلّ الجمعية، وما رافق ذلك من تفسيرات وحوافز بقيت غير مستكشفة. وذلك أشبه شيء بكرة من الصوف داعبتها هرة صغيرة، فتشابكت فيها خيوط كثيرة يجب حلها. وإذا كان ظاهر الأمر يوحي بأن الجمعية تأسست من أجل نشر العلم والتنمية، فإن ذلك غير كافٍ، فقد يكـون ما خفي أكثر مما ظهر، ويقال في المثل «المخفي أعظم». 
هيأت بيئة بيروت الإسلامية ظهور فجر صادق تجاوز في تجلياته حدود المخيلة، ذلك أن كل كائن فيها أكان مادياً أم معنوياً يؤكد حضوره وفاعليته في صنع هذا الفجر رغم المعاناة التي عاشها سكان المدينة طيلة عقود. كما أن التنقير عن الملابسات التي واكبت ظهور المقاصد ،والوقائع التي دفعت إلى تأسيسها،  ثم تسمية عبد القادر قباني كأول رئيس لها، كل ذلك له أهمية بالغة في الكشف عن تاريخها، والإبانة عن مسارها،  وإلقاء  أضواء كواشف على خطواتها. 
وهذه محاولة العودة الى كواليس السراي الصغير والاجتماعات والمداولات التي جرت فيها وأدت الى تأسيس الجمعية، وكذلك الإرهاصات أن صحّ التعبير التي دفعت السلطة المحلية المتمثلة بالمتصرف الى تأسيسها ورغبته بمواكبة تطلعات مدحت باشا الإصلاحية.

وإذا صحّ ما رُويَ من أن اجتماعات سبقت تأسيس الجمعية، عقدت في السراية القديمة (قام محلها سوق سرسق) بإيحاء من مدحت باشا – برئاسة رئيس مجلس إدارة  سنجق بيروت المتصرف رائف بك، وحضور سكرتير المجلس  حسن محرم بك والقاضي الشرعي عبد الله جمال الدين بصفته احد الاعضاء الطبيعيين في المجلس وجرى التداول فيها مع بعض المؤسسين بموضوع تأسيس الجمعية، إذا صحّ ذلك، فمن المرجح أن تسمية  الشيخ عبد القادر القباني كأول رئيس للجمعية ، تمّ في احد هذه الاجتماعات، وأن إعلان انتخابه تمّ في الاجتماع الذي عقد في منزله بعد أداء صلاة المغرب في يوم الأربعاء غرة شعبان سنة 1295 هجريــــــة/31 تموز (يوليو) 1878 ميلادية.  ولم يتساءل أحد من الذين حضروا الاجتماع المفاجىء عن خلفية الاجتماع والمشاورات التي كانت قد سبقته ومن غير المعقول أن يكونوا حضروا هذا الاجتماع دون معرفتهم المسبقة بالغاية منه وما تهدف اليه ومـــــــــا قد يتمخض عنه؟ 
ولا يظننّ أحد أن اجتماع المؤسسين الخمسة والعشرين في دارة عبد القادر قباني كان عفوياً وبمبادرة من صاحب الدار في زمن كان فيه اجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص يثير الريبة والحذر والشكوك، في ظلّ عيون السلطة وأعوانها في ظل ما أشيع عن رغبة في الإصلاح ساعدت إعادة العمل بالدستور على تصديقه.
يذكر أن  القباني ترك رئاسة الجمعية بعد سنة من انتخابه دون أن تتبين أسباب ذلك فهل استقال ام اقيل؟ أم أجبر على الاستقالة وهل كانت استقالته تنفيذاً لاتفاق مسبق مع المتصرف؟ فاتحا المجال لحسن محرم بك الأكثر قدرة على حماية الجمعية من الأعاصير. وكأني بالقباني كالملك ميداس في الأسطورة اليونانية الذي منح القدرة على تحويل كل ما يلمسه إلى ذهب، وقد علم حلاقه بأن الملك يملك أذني حمار، وشعر بالحاجة الملحة إلى التنفيس وإفشاء السر، ولأنه لم يكن باستطاعته البوح علناً بذلك، حفر حفرة في الأرض وهمس بها بما اطلع عليه، ولكن سرعان ما هطل المطر ونبتت الأعشاب، وذاع السر مع هبوب العواصف. 
الا ان اختيار عبد القادر قباني لرئاسة الجمعية لم يكن من فراغ فقد كان القباني من المتنوّرين الساعين لإصلاح الأوضاع الاجتماعية. ولم يكن اختياره يثير أية حساسية لدى السلطة المركزية في الآستانة كون مصطفى آغا - والد القباني– كان موالياً ومخلصاً لتلك السلطنة وقد حارب جيش ابراهيم باشا دفاعاً عنها، فضلاً عمّا كان يتمتع به عبد القادر القباني من خبرة في مجال التعليم، وتجربة في اعمال الجمعيات، إضافة لامتلاكه صحيفة ثمرات الفنون المعتبرة منبراً إعلامياً وإعلانياً لِبثّ ونشر أهداف الجمعية. 
حسن محرم
وبعدما ترك القباني رئاسة الجمعية. تم اختيار «صاحب الرفعة حسن محرم بك ابن عزتلو إسماعيل بك باش كاتب مجلس تمييز لواء بيروت حالاً» رئيسا للجمعية تأكيداً  لدوره الأساسي في تأسيس الجمعية ومشاركته في كافة الاجتماعات التي سبقت ذلك وأعقبته. وقد بقي رئيساً حتى حلّ الجمعية سنة 1882م. ونقل إثر ذلك من رئيس كتاب مجلس متصرفية لواء بيروت وعين قائمقاماً لقضاء طول كرم.
وبعد تولي حسن محرم بك رئاسة الجمعية وبناء لطلب  المتصرف استدعي عبد الله خرما (والد المؤسس محمود خرما) الى السراي وطلب منه بحضور القاضي حسن صدر الدين اعتزال نظارته على جبانات الباشورة والمصلى الخارجة والسنطية الى الجمعية، وتم عقد مجلس شرعي برئاسة القاضي حسن صدر الدين (العضو الطبيعي في مجلس الإدارة) في غرة ذي الحجة 1297هـ/1880م التمس فيه عبد الله خرما عزله من النظارة فتقرر قبول طلبه وإقامة رئيس الجمعية حسن محرم بك ناظراً.
وكانت بيروت مهيأة لتقبل هيئة للقيام بإصلاحات مأمولة فقد أخذ عالما بيروت الشيخــــان محمد الحوت وعبد الله خالد منذ منتصف القرن التاسع عشر على عاتقيهما مهمة نشر العلم والتفقه في الديـن. ولمح لخليل الخوري في كانون الثاني يناير (1867م) عندما كتب في صحيفته حديقة الأخبار» بأن جميع هذه المكاتب (المدارس) بيد المسيحيين وليس عند أهل الإسلام في مدينة بيروت مدرسة متقنة للتعليم... «وقد أكد هذا الواقع المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في مجالس الوعظ والتفسير التي القاها خلال  شهر رمضان المبارك سنة 1875م في الجامع العمري الكبير.
تم سنة 1876 خلع السلطان عبد العزيز، ثم أعلن أنه انتحر، ونُسب إلى خلفه السلطان مراد الخامس أنه غير متزن، فتمّ خلعه ونصب عبد الحميد الثاني سلطاناً في 31/8/1876م. 
وكان مدحت باشا أحد الأربعة الذين كانوا وراء هذه الأحداث ، وكان رأي مدحت أن إعلان الدستور (أي المشروطية) هو الدواء لحل مشاكل الإمبراطورية، وهو السبيل إلى تطبيق الديمقراطية.وفي سنة 1876م أعلن السلطان عبد الحميد الدستور، وقدم  ختم الصدارة العظمى إلى مدحت باشا الذي أعتبر «أبو الدستور وأبو الأحرار وأبو الإصلاح». ولقي إعلان الدستور ترحيباً عاماً، وإن كان الكثيرون لم يكونوا مدركين لمعاني الدستور والديمقراطية وغاية الإصلاح.
أما أهالي بيروت فقد جمعوا مبلغاً وافراً من المال صرفوه على تغليف القانون الأساسي (الدستور) بمغلف مذهّب مرصّع بالحجارة الكريمة، وقدّموه إلى متصرف المدينة  وقد كتبوا بالذهب على الدستور في جهة، بيتين من الشعر من نظم إبراهيم الأحدب هما:
يا رائف العلياء أنت رئيسنا
بنظام قانون لديك مصونِ
لا غرو إن وافاك منّا تحفة
إن الرئيس أحق بالقانون
وفي الجهة الأخرى كُتب «تذكار من أهالي بيروت».
بعد أشهر من نفي مدحت باشا سُمح له بالعودة والإقامة في جزيرة كريت، ثم عين والياً على سورية. وما أن استلم مهمته حتى دار الهمس حول تجاوب الباب العالي مع مطالب مدحت الإصلاحية. ذكر أنه أرسل كاتم سرّه إلى الأستانة بلائحة إصلاحية تتضمن ثلاثة أمور هي أن يُعين والياً على سورية لمدة خمس سنوات وأن يفوض إليه أمر تعيين الموظفين والمأمورين في الولاية وأن يُحدد المبلغ الذي سيقدم إلى وزارة المالية، ويُفِوض الوالي باستعمـــال ما يبقى من دخل الولاية في سبيل المنفعة العمومية للولاية.
وقيل إن رائف بك– متصرف بيروت – هو كاتم السر الذي توجه إلى الأستانة حاملاً لائحة مطالب مدحت باشا. وقد ذكر بأن نوايا رائف، كانت مباينة لنوايا مدحت، لميل هذا الأخير لروسيا، وكره الآخر لها، وأن رائف حصل على التفات السلطان؟ فهل لعب رائف بك دوراً مزدوجاً بين مدحت باشا والباب العالي؟ مع الإشارة إلى أن رائف بك بعد مدة من إقصاء مدحت باشا ، أصبح ناظراً للزراعة والتجارة.
وقد تأكد دور متصرف بيروت رائف بك ونائبها عبد الله جمال الدين في تأسيس المقاصد مما قاله الشيخ قاسم الكستي  في المتصرف:
يا رائف القلب الذي أحكامه        ظهرت عدالتها بأشرف مظهرِ
عشقت مدائحك القلوب جميعها      والحب أوصلها لقلب السكر
ومما  قاله  في القاضي جمال الدين:
أن الشريعة في بيروت قد أخذت   حقوقها بجمال الدين حاكمها
إنه قد وفاها كل حكمتها          وفاه بالحق في دعوى  محاكمها
واثبت الشيخ الكستي ان افتتاح الجمعية لأول مدرسة كان بتشجيع من رائف أفندي:
أن هذا المكان منشأ خير          يدرك الطالبون فيه المعارف
تعتري داخليه رأفة قلبٍ           حيث أنشأوه  بهمة رائف
وأشار  الشيخ الكستي الى دور جمعية المقاصد في إنشاء المدرسة فقال:
هذا مكانٌ من أتاه  قاصداً             يلقى به الكرامة المرضيّة
بنية الخير تولّت أمره                 جمعية المقاصد الخيرية
زار مدحت باشا لبيروت في آذار 1879م، واستقبل وفداً من أعضاء الجمعية قدموا له طلباً بالمساعدة على الوصول إلى ما يمكنهم من خدمة الوطن وترقي المعارف في أبناء الطائفة الإسلامية، وأظهروا له حالة التعليم ومقاصد جمعيتهم، فوعدهم بالمساعدة وعين لجنة برئاسة المفتـــي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وتحت نظارة النائب (القاضي) عبد الله جمال الدين وأوعز الى هذا الاخير بتسهيل مهمة اللجنة التي وضعت لائحة بالأوقاف التي يمكن تسليمها للجمعية، حملت تأشيرة القاضي بالموافقة حملها عمر غزاوي إلى دمشق ونال موافقة مدحت باشا عليها.وقد أصدر مدحت باشا اثناء وجوده في بيروت قرارات إدارية مكافأة لبعض المؤسسين، منها تعيين عمر غزاوي (والد المؤسس عبد الله) عضواً في مجلس إدارة لواء بيـروت، وسعيد الجندي مدعياً عاماً للواء  واحمد دريان مأموراً للإجراء.
 وفجأة قدم مدحت باشا استقالته في أيار 1880م. وكما أحاط الغموض بأسباب تأسيس جمعية المقاصد ، كذلك أحيطت أسباب حلّها بألغاز بدت أكثر وضوحاً من الألغاز التي رافقت تأسيسها. فقد أعفي مدحت باشا من ولاية سورية وعيّن والياً على ولاية أيدين ومركزها أزمير.وكانت التحقيقات جارية في حول وفاة السلطان عبد العزيز، وتبين أنه قتل بمؤامرة من عدة أشخاص كان من بينهم مدحت باشا الذي كان على علم بالجريمة. حُكم على المتهمين ومنهم مدحت بالإعدام، ثم  خفضه السلطان إلى السجن المؤبد فسيق إلى سجن الطائف  في تموز 1881م وتوفي فيه في آذار 1884م.
وأثناء ذلك  ضبطت السلطات في مرفأ بيروت مركباً يحمل خمسة وثمانين برميلاً من البارود كان  وارداً لسعيد طرباه، أحد مؤسسي المقاصد.في ذلك الوقت كانت الباخرة ترسو في مرفأ بيروت سنة 1882م ناقلة عشرات المصريين الذين اتهموا بالاشتراك في ثورة عرابي ونفوا إلى بيروت. إضافة الى المنشورات التي الصقت في شوارع بيروت سنة 1880م مصاغة بلغة عربية لا يجيدها إلاّ من أتقن لغة القرآن، تشجب الظلم والفساد وتدعو لنهضة العرب وتذكرهم بأمجادهم. وورود رسالة إلى الوالي الجديد تتهم جمعية المقاصد الخيرية بأنها صاحبة المنشورات وأن مدحت باشا هو وراءها وأنه أسس المقاصد كجمعية خيرية وسيلة لتحقيق أهدافه. ما تذرعت به السلطة سنة 1884م لحل الجمعية حتى سنة 1908م عندما استلمت جمعية الاتحاد والترقي السلطة وتم احياء الجمعية التي تابعت مسيرتها. وستبقى قافلة المقاصد سائرة بإذن الله فإن للمقاصد ربّاً يحميها. 
 
* محامٍ ومؤرخ