نقل الجاحظ قول بشر بن المعتمر: «من أراد معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً فان حق المعنى الشريف اللفظ الشريف». وأدخل في روع طلاب المدارس أن العالم الإسلامي كان في عصر انحطاط وسبات لم يفق منه إلا بعد الجهود التي قام بها المستشرقون والمبشرون. ولا يزال طلاب الحقوق يرجعون الى موسوعتي داللوز وسيراي في القانون والاجتهاد الفرنسي، علماً بأن داللوز ينسب الى فيكتور داللوز (1795-1869م) وينسب سيراي الى جان باتيست سيراي ( 1762- 1845م). ولا يهدم هذا الوهم سوى نشر الموسوعات التي كتبت في ذلك العصر. منها لسان العرب لابن منظور(ت 711 هـ) وتاج العروس لمحمد مرتضى الزبيدي والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (ت 874 هـ) والسلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي البقاعي (ت 845هـ).
نذكر نموذجين من العصر الذي سمي عصر الانحطاط : أولهما كتاب صبح الأعشى في صناعة الانشا لأبي العباس أحمد القلقشندي ( توفي سة 821هـ) بيّن فيه مؤلفه كيف صارت اللغة العربية لغة العلم والحكمة والشعر والقضاء، ولغة التأليف والتصنيف في نظام الممالك وسياسة الأمم والشعوب ورسوم الممالك وشروطها وأنظمتها وقواعد العمل في ديوان الإنشاء وما يكتب في الوصايا والاقطاعات وعقود الأمانات والصلح.
وثانيهما كتاب «جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود» للعلامة شمس الدين محمد بن أحمد المنهاجي الأسيوطي (813 هـ/880هـ/أي 1440م حققه محمد حامد الفقي وكانت نسخة منه في المكتبة الأزهرية لمالكها (الشيخ عمر المحمصاني البيروتي) وطبع سنة 1955م على نفقة الشيخ محمد سرور الصبّان وزير المالية والاقتصاد في المملكة العربية السعودية سابقاً.وهو كتاب فقهي بديع الترتيب جيد التأليف والتركيب جمع الأحكام الفقهية والقواعد الأصولية في المسائل التي تضطرب فيها حياة الناس في الأسرة وخارجها وما يتعلق بها ، وذكر كاتبه فيه نماذج من المسائل الخلافية والأحكام الصادرة فيها ونماذج من عقود الشراء والبيع والصلح والقرض والضمان والشركة والوكالة والعارية والشفعة والإجارة والوقف بحيث يعتبر مرجعاً للقضاة والمحامين والموقعين والعامة ولا يقل أهمية في بابه عن موسوعتي داللوز وسيراي وقد سبقهما بأكثر من ثلاثمائة سنة.
اللفظ الكريم في القضاء الشرعي في بيروت
لم يشذ القضاء الشرعي في بيروت عن هذه النماذج التي غدت تراثاً وتقليداً يلجأ اليه في القضايا التي تعرض. ولما كان عمل الخير مرغوباً فيه فقد وردت في تشجيعه والحث عليه وبيان فضله الآيات الشهيرة والأحاديث المتواترة. وقد جرت العادة على تكريم هذا العمل الكريم بمقدمة من لفظ كريم. ومن هذه الأعمال الكريمة أوقاف أهل الخير. وفيما يلي بعض مما عثرنا عليه في السجلات الشرعية.
1- في سنة 1255هـ/1839م أراد الشيخ محمد البواب وقف عقاراته فنظم له قاضي بيروت في حينه الشيخ عبد القادر جمال الصيداوي وثيقة الوقف مفتتحاً إياها بعبارات نسج على منوالها بعده سنة 1257هـ/1841م قاضي بيروت الشيخ عبد الغني بن عمر الغزي الدمشقي، وكذلك قاضيها سنة 1263هـ/1846م الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي وجاء في المقدمة «بمجلس الشريعة الشريفة المطهرة الغراء، ومحفل الطريقة المنورة الزهراء، بمدينة بيروت المحروسة أجله الله تعالى وأيده لدى متوليه مولانا الحاكم الشرعي الحنفي الموقع اسمه وختمه أعلاه، لطف بنا وبه سيده ومولاه . الحمد لله الذي وفّق لعمل الخيرات من بباب تقواه وقف. وله بالصدق لعمل الصدقات وصف. وجعله ممن بالقبول لعلمه الصالح اتصف. وجعل ذكره الحسن مؤبداً والثناء عليه مخلداً. ومنّ عليه ببناء القصور له في الجنة والغرف. وجعل ثوابه جزيلاً وعمله مقبولاً ووجهه جميلاً وقدره لديه تعالى جليلاً وزينه بحلل السعادة وجعلها له من أجلّ المنن والتحف. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من شهد بوحدانيته واتصافه تعالى بكل صفة كمال، وأقر بتنزيهه عن كل ما لا يليق به تعالى واعترف. وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ونبيه وصفيه وخليله الذي جعله بحر المعارف والأسرار فيا سعد من رشف وغرف واعترف. الذي جعله الله تعالى أفضل الخلق جميعاً ومنّ عليه بغاية التعظيم ونهاية الشرف. صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه وأحزابه من السلف والخلف. صلاة وسلاماً دائمين متصلين ما هطل وابل ووكف. وما منه كرع كارع وشرب شارب وارتشف.
وبعد فلما كانت الصدقات من أجلّ القربات وأفضل الأعمال الصالحات وأجمل المبرات وأحسن الطاعات، وكان من أفضلها وأعظمها أجراً وثواباً الصدقة الجارية لأن أجورها عن صاحبها إلى انقراض الزمان غير منقطعة، بل هي متصلة متوالية تجري على فاعلها إلى يوم القيامة، كما ورد بذلك حديث ذي المراتب العالية والمقامات السامية أفضل الرسل الكرام محمد المصطفى عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام بقوله إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وعد منها الصدقة الجارية. رغب كل سعيد ومن ألقى السمع وهو شهيد. وكان ممن رغب فيها ابتغاء لوجه الله الكريم ورغبة في ثوابه العميم وطمعاً في دخول الجنة دار النعيم، فراراً من العذاب الأليم وخوفاً من دخول السعير والجحيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. يوم يجزي الله المتقين ولا يضيع أجر المحسنين، ويوم توافي الصدقة صاحبها وهي كالجبل العظيم، الرجل الكامل...».
2ـ «الحمد لله الذي وعد أولياءه جزيل النعم. وأعد لأعدائه وبيل النقم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل العرب والعجم . وعل آله وصحبه وسلم ذي الفضل والكرم . وبعد ، فإن فعل الخيرات من أعظم القربات وأفضل العبادات. ربح بها العاملون، كم قال في محكم كتابه المكنون. وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. هذا ما شهد على نفسه الكريمة فخر الفضلاء والحفاظ، عذب المنطق والألفاظ، الصدر الأجل الكبير المحترم مولانا وسيدنا الشيخ علي ابن المرحوم محمد الشهير نسبه بابن القصار أعانه وأعزه العزيز الغفار إشهاداً صحيحاً شرعياً في صحة وسلامة وطواعية واختيار، من غير إكراه ولا إجبار... ».
3ـ « الحمد لله بمجلس الشرع الشريف ذي المقام المنيف، العاري عن الزيغ والتحريف، بمدينة بيروت المحمية ، أجله الله تعالى لدى الحاكم الشرعي المشار اليه أعلاه، دام فضله وزاد علاه. لما علم جناب عمدة الأمراء الكرام ونخبة الأماثل الفخام الأمير يونس بن الأمير عباس بن الأمير أحمد الشهابي، بأن الدنيا دار مكر وخداع، وملتقى ساعة لوداع، قدم لنفسه وعمل ليوم حلوله برمسه، قد بنى دائرة تحتوي مقام الإمام المجتهد إمام الشام وشيخ المحدثين الفخام سيدنا وسندنا الشيخ عبد الرحمن الأوزاعي قدس سره العالي الواقع خارج بيروت وشهرته تغني عن تعريفه...» (سنة 1156هـ/ 1743م).
4ـ في سنة 1219هـ/ 1804م رغب الحاج بكري ابن المرحوم الشيخ حسن زنتوت الشهير( سنتها) بالعريس، بوقف أملاكه ليصرف ريعها على زاوية بني زنتوت فإذا خربت يعود ريعها الى الحرمين الشريفين. فنظم قاضي بيروت في تلك السنة الشيخ عبد الهادي قرنفل حجة الوقف وجاء فيها «الحمد لله الذي رفع اسم من وقف بابه ونعته بالصفات الناهية. وقبل منه بصالح النية فعل الصدقات وجعلها له مدخرة باقية. أحمده وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والعلانية. وأشهد أن سيدنا ومولانا محمداً عبده ورسوله صاحب المعجزات الزاهية، وسلم تسليماً.
وبعد فلما كانت الصدقة من أجل الأعمال وأحبها إلى الكبير المتعال. ووردت في فضلها الآيات والأحاديث المشهورة والسنن المأثورة. رغب لامتثالها كل سعيد. من ألقى السمع وهو شهيد. خوفاً من عذاب يوم الوعيد. كان من الذين أصغوا الى تلك الخصلة الحميدة الدالة على الصدق والإنابة. وأجابوا لها فأحسنوا الإجابة. وعملوا بحديث سيد العرب والعجم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وعد منها الصدقة الجارية، الواقف الآتي ذكره راغباً في تحصيل الزاد ليوم المعاد، فبادر إلى مجلس الشريعة الغراء المطهرة الزاهرة في مدينة بيروت المحروسة أجله الله تعالى لدى فخر قضاة الإسلام، وحامل لواء شريعة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة، الحاكم الشرعي الحنفي الواضع اسمه بخطه مع ختمه أعلاه، لطف بنا وبه سيده ومولاه. وحضر الرجل الكامل الموفق الحاج بكري بن المرحوم الشيخ حسن زنتوت الشهير نسبه الآن بالعريس...».
5ـ في سنة 1233هـ / 1817م حضر الشيخ درويش علي القصار لدى قاضي بيروت الشيخ أحمد الأغر ووقف عقاره على زاوية السيد أحمد البدوي دفين طنطا ، فنظم القاضي وثيقة الوقف قائلاً «الحمد لله الذي رفع اسم من وقف بابه ونعته بالصفات الناهية . وقبل منه بصادق النية فعل الصدقات وجعلها له مدخرة باقية. أحمده على نعمه الوافرة الوافية. وأشكره على آلائه المتوالية الدايمة التي هي غير متناهية. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والعلانية. وأشهد أن سيدنا ومولانا ونبينا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله ذو المعجزات السامية والمقامات المرتفعة العالية. اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أهل الوجوه الزاهية. صلاة وسلاماً يرضيان الرب الجليل ويدومان في البكرة والأصيل ويدخل بهما قايلهما جنة قطوفها دانية.
أما بعد فلما كانت الصدقة من أجل الأعمال وأحبها إلى الملك المتعال ووردت في فضلها الآيات القرآنية الشهيرة والأحاديث الصحيحة المشهورة في السنن المأثورة، رغب لامتثالها كل سعيد ومن ألقى السمع وهو شهيد، خوفاً من العذاب الشديد، في يوم الوعد والوعيد. وكان من الذين أصغوا الى تلك الإنابة وأجابوا فأحسنوا الإجابة وعملوا بحديث سيد العرب والعجم الذي شرف هذا العالم وجعل الله تعالى تحت لوائه الشريف آدم ومن دون آدم، إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وعدّ منها الصدقة الجارية، الواقف الآتي ذكره راغباً في تحصيل الزاد ليوم المعاد...».
* محامٍ ومؤرخ