بيروت - لبنان

اخر الأخبار

8 أيار 2018 12:05ص من تاريخ القضاء الشرعي في بيروت (14)

وقف قصر بيت الدين لحمايته من المصادرة ثم إبطال الوقف لثبوت البيع قبل الوقف

حجم الخط
شهدت المحكمة الشرعية قضايا مهمة منها وقف قصر بيت الذي بيع سراً ثم اوقف علناً ثم ابطل الوقف باعتباره وقع من الواقف على مال لا يملكه. شارك في العملية الامير بشير وزوجته وابنته ودعمت بفتوى.
بنتيجة الصراع بين درويش باشا والي الشام وعبد الله باشا والي عكا، مال الأمير بشير الشهابي إلى هذا الأخير، الذي أذنه بالسير إلى بيروت. ووصل الأمير إلى حرج صنوبر بيروت في تموز ( يوليو) 1822م، فخرج لملتقاه متسلم المدينة خليل كاشف وقاضيها الشيخ أحمد الأغر، ومفتيها الشيخ عبد اللطيف فتح الله، ومعهم رهط من أعيان البلدة . عارض قسم من الوفد دخول الأمير وصحبه إلى بيروت، فيما أيده آخر. فبقي الأمير خمسة أيام مخيماً في الحرج، ثم انتقل إلى عكا فمصر، حيث عقد إتفاقاً إستراتيجياً مع محمد علي باشا. ثم عاد إلى مقر حكمه معززاً مكرماً، لا سيما بعد إحتلال جيش محمد علي لبلاد الشام منذ سنة 1832م.
وتفيد المصادر التاريخية أن غيوم الثورة ضد الحكم المصري في بلاد الشام، بدأت تتجمع منذ أوائل سنة 1839م. فبدأ الثوار يتجمعون  في ضواحي بيروت وهجموا على الكرنتينا وكرّوا على أبواب المدينة وسورها، فردتهم حاميتها وأصلتهم ناراً حامية. وشعر الأمير بشير بالأرض تميد تحت قدميه وبدنو أجل حكمه، فأراد أن يؤمن أمواله وممتلكاته خوفاً من مصادرتها، فلجأ إلى وسيلة قديمة لحماية الأموال من المصادرة، نعني اللجوء إلى نظام الوقف، ولا سيما الوقف المشترك بين الخيري والذري فأوعز الأمير بشير إلى وكيله مصطفى آغا ابن عبد الغني فتح الله (لم  تثبت قرابته للمفتي الشيخ عبد اللطيف فتح الله) بالقيام بما يلزم لوقف قصر بيت الدين.
وقف قصر بيت الدين 
وبالفعل حضر الوكيل  في 23 صفر الخير سنة 1255هـ/أيار (مايو) 1839م إلى «مجلس الشرع الشريف الأنور ومحفل الحكم المنيف الأزهر بمدينة بيروت المحروسة لدى متوليه الحاكم الشرعي الحنفي الموقع اسمه الكريم بخطه وختمه أعلاه دام فضله وزاد علاه» ووقف الوكيل بوكالته عن الأمير بشير وحبس  وأبّد وخلّد وتصدق،  بما في يد موكله وجار في ملكه وتحت مطلق تصرفه وذلك الموقوف هو «جميع الدار المعروفة بدار الحريم المشتملة على أماكن سفلية وعلوية، من بيوت وغرف وساحات ومرتفقات،  الكائنة داخل سراية الموكل ضمن قرية ابتدين شرقي القرية المعروفة بدير القمر من قرايا جبل الشوف، من الباب الكبير المرصع بالرخام، الذي هو تجاه القبلة إلى ما في داخله، ومدخله يميناً ويساراً. وجميع الدار المعروفة بالوسطى التي فيها بركة الماء الكبيرة الجارية، المشتملة على أواوين وقاعات ودواوين وخانات ومربعات وساحات وعلى دور صغار. وتشمل الدار العلوية المسماة بالديوان خانة، على إيوان وثلاثة مربعات وسبيل ماء جاري، يصعد إليها بسلم حجر. وكذلك جميع الجنينة الملاصقة للحمام والتي بجانب الإصطبل. والدار التحتانية المعروفة بدار الخيل،  المشتملة على إيوان وأود وبركتي ماء وقبو معقود ومحوطتين.  وجميع الإصطبلات الكائنات أسفل دار الحريم، وجميع الأقبية والحواصل الكائنة أسفل الدار الوسطى..». 
وجعلت الأماكن المذكورة «وقفاً وحبساً وتأبيداً وتصدقاً شرعيات صحيحـــــات، لا يباع شيء من الأماكن الموقوفة ولا تشترى، ولا توهب ولا تملك ولا تستملـــــــــك،  ولا ترهن ولا تستبدل ولا يناقل بها أو بشيء منها، ولا تنتقل لا هي ولا شيء منها إلى ملك أحد من الناس ... وجعل ذلك كله وقفاً شرعياً على الستّ جهان بنت عبد الله جركس (زوجة الأمير الثانية) ما دامت، ودائماً ما عاشت. ثم من بعدها فعلى أولاده ثم أولادهم وأنسالهم،  فإذا ا نقرضوا كان ذلك وقفاً على الأمير عبد الله ابن شقيق الأمير بشير ثم أولاده وأنساله، فإذا انقرضوا يكون ذلك وقفاً شرعياً على الفقراء والمساكين...» ونصت الوقفية على إخراج مبلغ 150 قرشاً كل سنة من غلة الوقف،  صدقة للفقراء والمساكين. وجعل التولية والنظر على الوقف للست حسن جهان. 
بعد أشهر على وقف سراية بيت الدين، انسحب جيش إبراهيم باشا، وصدر الأمر بالقبض على الأمير بشير ونفيه إلى مالطه التي حملته إليها سفينة انكليزية في تشرين الأول (اكتوبر) 1840م.
الإدعاء ببيع القصر فبل وقفه
بقي الأمير بشير سنة في مالطه ، ثم حضر إلى الأستانة ، فمكث فيها مدة الى أن توفي فيها سنة 1850م. وكانت الأحوال قد هدأت، فعادت عائلة الأمير إلى بيت الدين.
وفي 23 من شهر ذي الحجة سنة 1273هـ/آب (اغسطس)   1857م تقدمت الأميرة سعدى ابنة الأمير بشير بشخص وكيلها الخواجة فضل الله العازار من قاضي بيروت الشرعي عبد الحميد افندي، زاعمة حرصها على الوقف، بدعوى ضد والدتها الست حسن جهان، مدعية بأن والدتها خالفت شرط الواقف وباعت من صهرها الأمير سليم عبد الله الشهابــي - أي زوج سعدى نفسها – جزءاً من الأماكن الموقوفة،  فهي بذلك قد صارت غاصبة للوقف ومستحقة العزل. وطلبت إبطال البيع الصادر عن والدتها.
تمثل الأمير سليم بالخواجة يوحنا التبشراني، وتمثلت الست حسن جهان بالخواجة إبراهيم مشاقة، الذي أفاد بأن الأمير بشير حال حياته، وفي زمن سابق لما تدعيه سعدى من الوقف، قد وهب زوجته الست حسن الأماكن المدعى وقفها هبة صحيحة شرعية بالتسلم والتسليم، تسكنها وتستغلها طيلة مدة حياتها ثم بعد وفاتها يرجع ذلك ميراثاً لأولاده. وأبرز وكيل حسن جهان صكاً بالهبة مذيلاً بإمضاء وختم الأمير مؤرخاً في 21 شوال سنة 1252هـ. كما أبرز وكيل حسن جهان فتوى شرعية صا درة عن الشيخ محيي الدين اليافي (ابن الشيخ عمر اليافي وشقيق الشيخ محمد أبو النصر اليافي. تولى إفتاء بيروت مدة قصيرة سنة 1850م) وتنص الفتوى  سؤالاً وجواباً:
«ما قولكم دام فضلكم، فيما إذا وهب زيد داره لزوجته وسلمها لها تسكنها مدة عمرها وحياتها لا ينازعها منازع ولا يعارضها معارض، ثم بعد وفاتها ترجع ميراثاً لأولاده على الفريضة الشرعية، فهل تكون هذه الهبة صحيحة لازمة ويبطل الشرط وتملك الزوجة الدار الموهوبة بهذه الهبة، وتورث لها وليس له رجوع عليها حال حياتها ولا على ورثتها بعد مماتها أم كيف الحال؟ 
وفي هذه الصورة لو بعد أن وهب وسلم، قد وقف وحبس وأبّد هذه الدار الموهوبة على جماعة معلومين وآخره لجهة برّ لا تنقطع ومات الواهب المذكور ثم باعت الزوجة المحررة بعضاً شائعاً في الدار الموهوبة لعمرو، فبرز حينئذ بعض المستحقين بإذن الحاكم  الشرعي يخاصم المشتري المحرر والزوجة بالدار المحررة بدعواه أنها وقف عليه  وعلى جماعة سواه ، فهل لو قامت  الزوجة المذكورة أو المشتري فيها بينة عادلة على سبق الهبة على الزمان الذي يدعي فيه صدور الوقف من زيد المزبور،  يحكم لها بالملك ويبطل الوقف المذكور ويكون الحكم بالملك المؤرخ حكم على زيد وعلى من يدعي تلقي الملك أو الوقف منه من وقت  التاريخ أو كيف الحال أفيدوا...»
نص فتوى الشيخ محيي الدين اليافي بإبطال الوقف 
الجواب: 
«الحمد لله تعالى، نعم حيث وهب زيد لزوجته الدار المرقومة وسلمها لها وقال تسكنها مدة عمرها ثم بعد موتها تكون لأولاده، فالهبة جائزة صحيحة وتكون لها ولورثتها من بعدها. ففي فتاوى شيخ الإسلام علي أفندي مفتي الممالك العثمانية نقلاً عن الهداية والعمرى جائزة للمعمر حال حياته ولورثته من بعده. ومعناه أن يجعل داره له عمرى وإذا مات ترد إليه فيصح التمليك ويبطل الشرط.. وفي رد المحتار عن كافي الحاكم الشهيد: إذا قال داري هذه لك عمرى تسكنها وسلمها إليه فهي هبة. وكذا لو قال  اعمرتك داري هذه حياتك. أو قال اعطيتكها حياتك فإذا مت فهي لي لوارثي، فهي هبة صحيحة والشرط باطل فمن باب أولى اذا صرح في لفظ الهبة...
ويتابع المفتي بأنه «إذا أثبتت الزوجة الهبة يكون بيعها من عمرو صحيحاً نافذاً لأنها باعت ما هو ملكها. وإذا ادعى بعض المستحقين أن الدار وقفها زيد وأقامت هي البينة على الهبة والتسليم بتاريخ سابق على الزمان الذي يدعى فيه صدور الوقف، يحكم لها بالملك ويبطل الوقف،  لأنه وقف مالا يملك لخروجه عن ملكه بالهبة...». 
وهنا أحضر الخواجة إبراهيم مشاقة الأخوين الزنجيين عبد الفتاح وفرج ولدي عبد الله معتوقي الأمير بشير، وشهد كل منهما بأن الأمير بشير قاسم عمر الشهابي حال حياته اعترف وأقر بحضرتهما في 21 شوال 1255هـ بأنه قد وهب وسلم زوجته الست حسن جهان الأماكن موضوع النزاع... وجاء ت شهادتهما «صحيحة شرعية، متفقة الألفاظ والمعاني، ومنسقة المقاطع والمباني، عن علم جامع ويقين لامع...» فقبلت شهادتهما وحكم القاضي الشرعي بصحة الهبة وجريان الموهوب بملك الست حسن جهان وبعدم صحة الوقف حكماً شرعياً صدر في 23 ذي الحجــة 1273هـ/آب 1857م.
وهكذا أبطل الوقف المسجل والمثبت بحكم من القاضي الشرعي والذي يحمل تاريخاً صحيحاً، وصادر في منازعة قضائية، أبطل بسند بإمضاء وختم الأمير مؤرخ – بتاريخ غير ثابت ومدعم بشهادة عبدين زنجيين محررين من عبيد الأمير بشير بعد أن قدما شهادة متفقة الألفاظ والمعاني منسقة المقاطع والمباني، عن علم جامع ويقين لامع... وكل ذلك بناء على دعوى مقدمة من ابنة الأمير بشير بوجه والدتها التي زعم أنها  باعت جزءاً من القصر لصهرها الأمير سليم زوج المدعية سعدى؟!! وبفتوى تحل اللغز. 
* محامٍ ومؤرخ