بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تموز 2018 12:04ص من تاريخ القضاء الشرعي في بيروت (18)

نصائح وهبية من القاضي الشرعي يونس وهبي

حجم الخط
تولى يونس وهبي بن محمد قضاء بيروت بين سنتي 1314و1317 هـ/ 1896-99م محل القاضي كمال الدين وقد حل لدى وصوله ضيفاً في منزل عبد الرحمن عيتاني احد أعضاء محكمة الاستئناف. وعُرف يونس وهبي بعلمه الغزير وتدقيقه في أحكامه. نشر عدة مقالات بالصحف في الحكمة والإيمان وحسن الأخلاق بعنوان «نصائح وهبية». 
وقد نظر القاضي المذكور في مجلسه الشرعي بقضايا عديدة ومهمة منها ما جرى في المجلس في جمادى الثانية سنة 1303 هـ/1886م وخلاصته أن الخواجة منتر بن روبرت بن اسحاق موط من أهالي سوسكس في انكلترا وزوجته أوغسطا  وشقيقتها صوفية بنتي هانيبل بن همفري ايفنس لويد من لوندرا حضروا لديه ووقفوا ما هو لهم وجار في ملكهم والموقوف هو خمس قطع عقارية في محلة المصيطبة في بيروت وقطعة أرض في بعلبك ودار في حي القيمرية بدمشق وقطعتي أرض في حاصبيا وقطعتي أرض في صور وقطعة أرض في زحلة بحارة الميدان والمقدرة قيمة العقارات المذكورة بثلاثماية الف قرش ، وذلك وقفاً صحيحاً شرعياً وحبساً مؤبداً مرعياً على الواقفين مدة حياتهم ومن بعدهم فعلى مصالح ولوازم المدارس السورية الإنكليزية بمدينة بيروت وخارجها، وقد نشر يونس وهبي عدة مقالات منها:

الأنبياء وكأس الهداية والإيمان
«ذهب أحد أفاضل العلماء.وحذّاق الأطباء والحكماء ممن لهم المعرفة التامة في دقائق المسائل الحكمية وحقائق الأسرار الطبية الى ناحية من الأرض فوجد كافة أهلها مصابين بالأمراض القلبية وبعلل النفس الباطنية وقد تمكن ذلك فيهم وسرى في عروقهم وأعصابهم فأحب أن يخدم أبناء جنسه خدمة حسبية لمرضاة الله تعالى يزيل بها عنهم هذه الأسقام ومن هاته العلل والأمراض وذلك بما لديه من الأدوية الروحانية والمعالجات الحقة بيد انه قد عرف بالاستقراء أن هذه العلل المزمنة فطرية فيهم وأنه مهما بالغ في نصهم وإرشادهم لا يؤثر فيهم القول الحق ولا يميلون الى سماع الصدق اذ ختم الله على قلوبهم فلا يعلمون انهم مبتلون بتلك العلل والأمراض بل ربما يحتقرونه ويطردونه ويستجهلونه ويكونون له أعوان الداء فلم ير بدا من اتخاذ طريق الحكمة لينال مأربه ومقصوده فعمد بادىء بدء الى أحد كبرائهم وهو ممن أصيبوا بذلك المرض واخذ يظهر له انواع المحبة والوداد ويبدي له لطائف الحكم ورقائق الكلم حتى استماله اليه وتوثقت بينهما عرى المحبة والولاء وأصبح من اعز اعزائه وأحبائه ومن المؤتمنين على أسراره وبذلك تمكن من سقياه جرعة من كأس كان أعده لهداية أهل تلك البلدة فانشرح صدره ونشط جسده وأشرق في قلبه نور الهداية ووجد في نفسه قوة الإيمان فشكره الرجل على ذلك شكراً ما وراءه زيادة لمستزيد وأحب ان يكافئه على ذلك بأحسن الهدايا وأثمنها غير انه لما أحسّ منه عدم القبول الحّ عليه غاية الإلحاح بأن يكلفه بحاجة يفوز بقضاها فقال له ان اقصى مرغوبي وغاية مطلوبي هو ان يشرب اخوانك واحباؤك من الشراب الذي سقيتك اياه فيبرأون من تلك العلل الخفية وينشرح صدرهم وتنبعث فيهم روح الهمة والنشاط فأجابه بالسمع والطاعة وذهب به الى بعض أكابر تلك البلدة وأعيانها فأخذ الحكيم الفاضل يتخذ دقائق الحكم ورقائق الكلم حتى استمالهم اليه وسقاهم من ذاك الشراب العذب فنالوا بإذن الله البرء والشفاء وأصبحوا من السعداء وصاروا له أعواناً أخصاء وأتباعاً أمناء يبذلون النفس والنفيس وكل عزيز غال في معاونته والانقياد الى اوامره ونواهيه وما زال يطوف في ارجاء المدينة يسقي اعيانها وكبراءها من شرابه المطهّر واحداً بعد واحد حتى أصبحوا برمتهم له مريدين ولأوامره مطيعين واشرق في قلوبهم نور الحكمة ونشطوا من حضيض الجهالات الى اعلى المقامات فلما آنس منهم ذلك ولجّهم بإصلاح السوقة فكانوا يكرهونهم على تجرع ذاك الشراب النفيس فتبرأ قلوبهم من الأمراض وتستأصل منهم تلك العقائد الباطلة وطهرت قلوبهم وأفئدتهم من الأدناس والأرجاس.
ذلك مثل حضرات الأنبياء العظام والرسل الكرام عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام فقد نسجوا في مبدأ امرهم وأوائل بعثتهم على ذلك المنوال وسلكوا هذا المنهج المملوء نوراً وحكمة فدعوا الخلائق الى طرق التوحيد واستمالوهم بالنصائح والإرشاد حتى جرعوهم كأس الهداية والإيمان وبذلك تمكنوا من هدم اركان العقائد الباطلة ودعائم الأفكار الفاسدة وأصلحوا ما كان مستولياً على قلوبهم من المرض النفساني وبالإجمال فإنهم  قد طهروا قلوبهم من الأضاليل وأهلوهم لأن يحصلوا السعادة الأبدية.
ولما كان الأنبياء العظام مبعوثين اطباء للنفوس فكانت نصائحهم ومواعظهم هذه المملوءة نوراً ولا ريب الترياق الشافي لحياة النفوس وهي الواقية الشافية للأمراض المهلكة الطارئة على نفوس البشر وطبائعها وعقائدها وكافلة بإصلاحها.                                    
لا جرم ان ما اوضحوه من المحرمات هي الحمية الخاضعة للنفوس البشرية كما ان ما أباحوه من المأكولات والمشروبات وما شاكل كل ذلك هو الدواء فإذا وقف علماء العصر الذين هم ورثة الأنبياء وأطباء النفوس البشرية على العلل النفسانية والأمراض الباطنية وتدبروها باتفاق وحكمة وعالجوها بالأدوية النافعة لا جرم انها تندفع في زمن يسير ويشفى المريض اما اذا اختلفوا ووصف كل منهم دواء يخالف دواء الآخر فتكون مداواتهم اذ ذلك سبباً لإهلاك المرضى كما حصل في وقعة صفين فانه بسبب اختلاف الحكمين حدث ذلك الاختلال وضياع الأنفس».
الخصال المانعة من الشرور
«ان الخصال المانعة للإنسان عن الشرور والأفعال المذمومة إنما هي الديانة والشريعة والاعتقـــــــادات الصحيحة، فإن الناس مختلفون طبعاً وأخلاقاً وعادة وعلوماً وصنائع وأعمالاً على فنون شتى، ولكن مـــــن الناس خيِّرٌ ومنهم شريرٌ وأن شرّ الناس من لا دين له ولا يؤمن بيوم الحساب ولا يرجو الثواب ولا يخاف العذاب والعقاب... وأن الأنبياء عليهم أعلام لا يختلفون فيما يعتقدون من الدين سرّاً وعلناً ولا في شيء منه البتة كما قال الله جلّ جلاله: شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً... الآية.
وأما الشرائع التي هي أوامر ونواهٍ وأحكام وحدود وسنن فسير الأنبياء فيها مختلفة كما قال الله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة)... الآية.
واختلاف سننهم مختلفة بحسب اختلاف أهل الزمان وما يليق بهم أمةً أمةً وقرناً قرناً مثل شريعة نوح في زمانه وشريعة إبراهيم بعده في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة موسى بعده في زمان آخر وقوم آخريــــن، وشريعة المسيح بعده في زمان آخر وقوم آخرين، وشريعة محمد بعده في زمان آخر وقوم آخرين صلــوات الله تعالى عليهم أجمعين، فالأنبياء كلهم دين واحد وإن كانت شرائعهم مختلفة».
السعداء والأشقياء في الدنيا والآخرة
«إعلم أي ولدي ان الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة أربعة أقسام . منهم سعداء في الدنيا والآخرة ومنهم سعداء في  الدنيا أشقياء في الآخرة ومنهم أشقياء وأذلاء في الدنيا سعداء في الآخرة ومنهم أشقياء فــي الدنيا والآخرة جميعاً.
أما السعداء في الدنيا والآخرة فهم الذين يوفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة والعافية، وتمكنـــوا منها واقتصدوا على البلغة وسد الرمق والقوت الضروري ورضوا بالقليل وقدموا الفضل الى الآخرة ذخيرة لأنفسهم وزاداً لهم فيها كما قال تعالى: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) (ووجدوا ما عملوا حاضراً).  وأما السعداء في الدنيا الأشقياء في الآخرة فهم الذين يوفر حظهم من متاعها ويقبلوا فيها ورغبوا فيها وتلذذوا وتفاخـــروا وتكاثروا ولم يتعظوا بالزواجر الربانية وتعدوا وتجاوزوا الحد والمقدار وطغوا وبغوا وأسرفوا كما أشير في الفرقان اذهبتم طيباتكم في حيوتكم الدنيا واستمتعتم بها الآية.
وأما الأشقياء في الدنيا السعداء في الآخرة فهم الذين طالت أعمارهم في الدنيا وكثرت مصائبهم فـــــــــــي تصاريف أيامها واشتدت عنايتهم في طلبها وتعبت أبدانهم في خدمة أهلها وكثرت همومهم من أجلهــــــــــــا ولم يحظوا من نعيمها وامتثلوا أوامر الله ولم يتعدوا حدوده كما وصفهم سبحانه في القرآن الكريم. 
وأما الأشقياء في الدنيا والآخرة جميعاً فهم الذين بخسوا حظهم من الدنيا وسعوا في طلبهــــا ولم ينالوا خيراً ثم لم يأتمروا الأوامر الإلهية ولم ينقادوا لأحكام الله وتجاوزوا  حــــــــــدوده ولم يتعظوا بزواجره ولم يعملوا في عمارة بنيانه فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعاً نعوذ بالله من ذلك الخسران المبين».
  * محامٍ ومؤرخ