بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 شباط 2018 12:05ص من تاريخ القضاء الشرعي في بيروت (7)

معاونو القاضي الشرعي: شعراء وفقهاء وخطباء

ديوان مرآة الغريبة للشيخ قاسم الكستي ديوان مرآة الغريبة للشيخ قاسم الكستي
حجم الخط
عبد اللطيف فاخوري*
 
كان قاضي بيروت يختار كتبة من مساعديه ويأذن لهم بعقد مجلس شرعي  خارج مركز المحكمة لاستماع توكيل او مبايعة او مقاسمة مخالصة او يكلفهم بالكشف على بيوت ومحلات موضوع شكوى والتحقق من ضرر مدعى حصوله. 
وبعد تنفيذ المأمورية  التي كلف بها المأذون يرفع الامر الى القاضي الذي يقرّ عادة ما قرره نائبه. وقد وردت في بعض الوثائق  كلمة « النائب « ويقصد بها نائب القاضي.
 وعقد على سبيل المثال مجلس شرعي في أرض بمحلة الرميلة برئاسة مكرمتلو الشيخ إبراهيم الأحدب «باش كاتب محكمة بيروت الشرعية المأمور بهذا الخصوص..» وحكم المأمور الموما إليه للمدعي. ولما رفعت هذه القضية لدى هذا الداعي (النائب) أجزت الحكم وألزمت العمل بموجبه وأعلنت ما هو الواقع». وفي سنة 1287هـ/1870-71م عقد مجلس شرعي في مجلس تمييز لواء بيروت « وعين إبراهيم الأحدب  للكشف على شباكين يكشفان فسحة دار فتوجه معه أنطوان يارد أحد أعضاء المجلس». وعقد مجلساً شرعياً بحضور الشيخ يوسف الأسير في محلة الباشورة باعت فيه الست كول بهار زوجة الأمير قاسم الشهابي إلى ابنها رشيد عقارات في الشوف. وعقد في غرة جمادى الأولى سنة 1274هـ/ 1858م  مجلس شرعي في محلة القيراط لدى إبراهيم الأنصاري المرسل من طرف الحاكم الشرعي للكشف على ميزاب يجري على سطح، فقرر منع جري مائه. ولما عاد وأخبر مولانا المومى إليه بجميع ما ذكر «أجاز حكمه وأنفذه وأمر بتسطيره منعاً وتفريقاُ وأمراً صحيحات شرعيات».
تبين السجلات الشرعية عدداً من الكتاب المأذونين بعقد مجالس شرعية خارج مقر المحكمة منهم عبد الله البربير وعلوان ابن الشيخ  أحمد الأغر  والشيخ حسن المجذوب  والشيخ قاسم ابو الحسن الكستي والشيخ محمد الكستي الذي كان نائباً للقاضي رشدي. والشيخ توفيق خالد الذي أصبح نائباً للشيخ محمد الكستي ثم أصبح مفتياً. والشيخ عبد القادر ابن الشيخ عبد الرحمن  النحاس.
تراجم معاوني القاضي: الأحدب والأسير وسلام والكستي
يتبين من مراجعة سجلات محكمة بيروت الشرعية بأنه كان يتم تدوين وقائع المحاكمات وأقوال الفرقاء والشهود في محاضر المحاكمة ولم يكن من المتعامل به أن يقدم  اصحاب العلاقة  لوائح خطية بأقوالهم ودفوعهم ودفاعهم، بل يقوم الكاتب بتدوين دعوى المدعي وأقواله ومطالبه على المحضر فيوقع عليها ثم تدون أقوال المدعى عليه أو وكيله ويوقع عليها هذا الأخير. وكذلك الأمر بالنسبة إلى إفادات الشهود. و يتخذ القاضي القرارات التمهيدية على المحضر. ثم تدون القرارات النهائية في سجلات أخرى . ومن المعروف أنه عند افتتاح السجل الأول سنة 1259 هـ/1843م  كان الكتبة يستعملون الريشة والحبر السائل في تدوين الإفادات والقرارات.
مارس الكتابة في المحكمة الشرعية عدد كبير من الكتبة.منهم من كان شاعراً ومنهم من أضحى خطيباً ومنهم من أصبح قاضياً في المحكمة أو مفتياً لبيروت.
نذكر من أقدم الكتبة السادة مصطفى قرنفل ابن قاضي بيروت الشيخ عبد الهادي قرنفل. والشيخ علوان الأغر ابن المفتي القاضي الشيخ أحمد الأغر. والشيخ محمد قاسم  الكستي قاضي القضاة زمن الانتداب الفرنسي. والشيخ محمد علي الأنسي. والشيخ حسن المجذوب. والمفتي الشيخ محمد بن يوسف علايا. وإبراهيم أدهم. والسيد عبد الله البربير. والشيخ عبد القادر عبد الرحمن النحاس. ومحمد علي المكوك. ومحمد أديب محرم.والشيخ ( المفتي) محمد توفيق خالد.
ومنهم الشيخ إبراهيم علي الأحدب. ولد في طرابلس سنة 1834م. أتقن القرآن الكريم قراءة وتجويداً وبرع في الحديث والفقه والصرف والبيان والعروض. أقام في المختارة ثماني سنوات منذ سنة 1852 م مستشاراً لسعيد بك جنبلاط حاكم مقاطعة الشوفين بلبنان. عاد سنة 1860م إلى طرابلس. عين سنة 1861م رئيساً  لكتّاب محكمة بيروت الشرعية. وتولى نيابة القضاء فيها مدة. درّس في المدرسة السلطانية وحرر في الجرائد والمجلات لاسيما ثمرات الفنون. نظم الآف الأبيات الشعرية وعدداً من المسرحيات . توفي سنة 1891م. وعمل ابنه مصطفى رشيد الأحدب كاتباً في المحكمة.
 ومنهم الشيخ يوسف عبد القادر الأسير. ولد في صيدا سنة 1815م وأخذ علومه الأولى فيها. ثم توجه إلى الأزهر الشريف وتلقى العلم فيه مدة سبع سنين. وبعد عودته لوطنه عين رئيساً لكتبة محكمة طرابلس الشرعية. ثم نقل إلى محكمة بيروت الشرعية. استعان به المرسلون الأميركان لتصحيح ترجمة الكتاب المقدس. عمل في حكومة المتصرف  داوود باشا. عين في نظارة المعارف في الاستانة ولكنه استقال لشدة مناخها على صحته. توفي في بيروت سنة 1889م. ترك العديد من المؤلفات في الفقه والشعر والمسرح.
ومنهم الشيخ عبد الرحمن سلام. ولد في بيروت سنة 1871م. قرأ القرآن الكريم على الشيخ رجب جمال الدين. لازم حلقات المشايخ وقرأ دواوين الشعراء وأتقن اللسان التركي. تولى القضاء الشرعي في قلقيلية بفلسطين ثم انتقل إلى رئاسة كتّاب المحكمة الشرعية في بيروت إلا انه استقال إثر مشادة كلامية بينه وبين القاضي التركي. انتقل إلى دمشق عاملاً في بيع الكتب المخطوطة والمطبوعة. درّس في حمص ثم في القدس. عين سنة 1919م استاذاً للغة العربية في مكتب عنبر ومدرسة التجهيز ودار المعلمين بدمشق حتى سنة 1929م. 
قال عنه الشيخ علي الطنطاوي «كان نادرة الدنيا في طلاقة اللسان وفي جلاء البيــــــــــان ولقد عرفت من بعده ألسن الأدباء ومصاقع الخطباء فما عرفت لساناً أطلق ولا بياناً أجلى ولست أنسى خطبته حينما أطلّ من شرفة النادي العربي قبل يوم ميسلون على بحر من الخلائق تموج موجان البحر قد ملأ ما بين محطة الحجاز والمستشفى العسكري... وكبّر تكبيرة رددتها معه الحناجر كلها وأحسسنا كأن قد رددتها معه الخمائل من الغوطة والأصلاء من قاسيون ثم صاح صيحته التي لا تزال ترن في أذني عن وراء ثلاث وأربعين سنة حتى كأني أسمعه يصيح بها الآن: غورو لن تدخلها إلا على هذه الأجساد..»
وعندما عاد الى بيروت لم يلق العناية من تجارها المنشغلين بالتجارة على عادتهم فلجأ الى تعاطي بيع الخضار في سوق الخضار فالتفتت اليه جمعية المقاصد وعينته مدرساً في مدرسة الحرج .ثم عين أميناً للفتوى إلى حين وفاته سنة 1941م. له عدة مؤلفات في البلاغة والفقه والتجويد. منها كتاب دفع الأوهام بقلم ابن سلام انتقد فيه ما كتبه الشيخ ابراهيم اليازجي في مقالته حول لغة الجرائد. طبع سنة 1317هـ وأعاد طبعه حفيده الشيخ بهاء الدين سلام ضمن كتابه «عالم من بيروت الشيخ عبد الرحمن سلام». وقد تولى الشيخ عبد الرحمن سلام سنة 1908م تحرير مجلة روضة المعارف.  
ومنهم الشاعر الشيخ أبي الحسن قاسم محمد  الكستي. ولد في بيروت سنة 1840م. ظهر نبوغه باكراً فتدرج على علماء عصره كالشيخين محمد الحوت وعبد الله خالد . باشر التدريس ثم عين كاتباً في محكمة بيروت الشرعية فرئيساً لكتّابها. وفي السجلات الشرعية الكثير من الأحكام بخطه. له ديوانان مرآة الغريبة طبع سنة 1863م وترجمان الأفكار طبع سنة 1881م وفيهما تأريخ لكثير من الحوادث الاجتماعية والعائلية في بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن مؤلفاته منظومة في أسماء من شهد بدراً. وأرجوزة نظمها بطلب جمعية المقاصد لتدرس في مدارس البنات الاولى التي افتتحتها الجمعية وله مسرحية بعنوان حكمة الأفكار. ومقالات متفرقة تدل على سعة علمه وإطلاعه على علوم العربية. 
من اجتهاداته أن صديقاً له أخبره بأن لفظة بركان بمعنى الأراضي والجبال التي تنفجر بالمواد النارية. وأن آخر قال له إن اسمها في كتب اللغة الغربية: فلقان volcan   فتتبعها في كتب اللغة والتفسير فوجد لفظ فلقان يضم أوله، جمعاً مفردة فلق. وهو اسم من أسماء جهنم أو واد فيها ، فأدرك أن اللفظ الأجنبي أخذ من اللغة العربية التي هي سيدة اللغات ومن أشعاره المتفرقة التأريخ المثبت على لوحة رخامية بجانب الباب السفلي لجبانة الباشورة. ومنها ما نظمه سنة 1904م بعد وصول الفونوغراف إلى بيروت  وما نظمه سنة 1890م بمناسبة الاحتفال باليوبيل الخمسيني لوجود العلامة كرنيليوس قان ديك في بيروت، وتوفي سنة 1909م. 
 * محامٍ ومؤرخ