بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 أيلول 2018 12:04ص هل كانت مقبرة السنطية أثناء حُكم الفرنجة بقيع بيروت؟

حجم الخط
دخل الأوزاعي بيروت سنة 130هـ، واختار الإقامة في محلة قرا وجاق (الطويلة في ما بعد) في بيت ملاصق لسور المدينة الغربي مرابطة منه في غرب بيروت. ويدل ذهابه للصلاة والتدريس من منزله الى مسجد بيروت الأول (العمري – جامع البحر) قرب قلعة بيروت على عدم وجود مسجد في المحلة، التي سكن فيها وبالتالي قلة المقيمين فيها، وقد بقيت الى زمن متأخر عبارة عن جنائن وبساتين توت. ما يعني من الحتم اللازم انتفاء وجود مقبرة مجاورة لمحل إقامته، وإنْ وجدت قبور متفرقة.
وقعت بيروت تحت حكم الفرنجة أي الصليبيين بين سنتي 1110 و1291م اكثر من 170 سنة، تخللتها 10 سنوات فقط تحت حكم صلاح الدين حتى سنة 1198م. ومما يروى ان الفرنجة - كما كان يجري في فتوح البلدان  - قتلوا الآلاف من مسلمي بيروت، وقتلوا كذلك من أسر منهم ودمروا المساجد. ويقول صالح بن يحيى إنه خلال حكم الفرنجة الأول لبيروت لم يتوفر اربعين شخصا لأداء صلاة الجمعة، وان الفترة الثانية شهدت وجود جماعة من المسلمين مستوطنين بمساكنة الفرنجة. 
يذكر ان  الصليبيين بنوا قلعة كبيرة في بيروت في التل، الذي لا تزال بقاياه موجودة في الموقع المختار ليكون - تجاوزاً - متحف بيروت وقد وصفت القلعة بالقصر، فقد كانت ارضيتها وجدرانها مزيّنة بالفسيفساء وكانت قبتها مدهونة بالصباغ الأزرق على شكل السماء. كما بنوا كنيسة مار يوحنا المعمدان (النبي يحيى) وسط بيروت. ونعرف من بعض الرحالة الذين مروا في بيروت اثناء حكم الفرنجة انه وجدت سنة 1170م  سلسلة تربط بين برجين في الميناء، وان بيروت كانت سنة 1185م مدينة غنية حصينة كبيرة مزدحمة بالسكان. 
وتعرّضت بيروت بعد تحريرها سنة 1291م لعدّة حملات منها واحدة سنة 1299م كانت نتيجتها الفشل. وحملة اخرى حدثت سنة 1333م انهزم فيها المسلمون وقتل الكثير منهم. وفي الحملة الثالثة سنة 1384م صعد عسكر اسطول جنوى الى القلعة وانسحب بعد عدة ايام. وأخيراَ نزل الجنويون سنة 1403م في محلة السنطية (وردت الصنبطية وبرأينا ان الباء زائدة وليست اصلية) فنهبوا البلد وفر المسلمون.

مقبرة المسلمين خلال الحكم الصليبي 
لم يتبين ان احداً ممن درس تاريخ بيروت أشار الى مكان دفن المسلمين او من بقي منهم أثناء سيطرة الحكم الصليبي. فمن المرجح المعقول القول بأن الدفن توقف او امتنع في مقبرة المصلى ولا سيما ما ذكر عن عظمة وأهمية القلعة، والتي يصح القول الحتم اللازم ان احداً من المسلمين لم يعد يقيم بجوار القلعة ولا الدفن فيها. يؤيد قولنا هذا ان الحفريات التي جرت اخيرا في موقع سينما ريفولي، كشفت رفاة من الذين دفنوا في الموقع المذكور، ولكن الملاحظة الجديرة بالوقوف عندها ان تلك الرفاة وجدت على عمق كبير، ولم يتبين ان الدفن قد حصل بين تلك الطبقة العميقة وبين الطبقة السطحية الأرضية التي تم فيه الدفن في مقبرة المصلى التي ازيلت سنة 1930م، ما يبرر بالقول بأن الدفن في مقبرة المصلى الاسلامية توقف طيلة المدة من سنة 1110م  حتى سنة 1291م، فأين كان المسلمون يدفنون موتاهم خلال تلك المدة؟ 
لا يُعرف بالتحديد تاريخ بناء زاوية الراعي وقد أرجع الشيخ طه الولي بناءها – بدون ثبت – الى سنة 600هـ/ 1203م اي الى أيام الصليبيين. كما لم يترجم أحد للشيخ حسن فيذكر مولده ووفاته. وقد ترجم الشيخ يوسف النبهاني للشيخ حسن الراعي القطناني ناقلاً بعض اخباره وقد ذكر شفيق طبارة في مقالته عن زوايا بيروت ان الزاوية «تنسب الى الشيخ حسن الراعي المغربي وفيها درّس...» ويبدو الأصل المغربي من خلال إسهام المغاربة في الدفاع عن بلاد الشام ضد الغزوات الصليبية والمرابطة في ثغورها. إلا انه لم يثبت ان الشيخ حسن أقام في الزاوية أو درّس فيها أو ان احد مريديه او تلامذته بناها ونسبها اليه ودرّس فيها. ويرجح هذا الرأي الأخير ما ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي عندما زار بيروت للمرة الأولى  في شهر صفر الخير سنة 1105هـ/1693م فقال في رحلته المسماة  الحقيقة والمجاز في الرحلة الى مصر والشام والحجاز: «ذهبنا الى ساحل البحر فزرنا هناك تلك المقبرة مع السيد احمد عز الدين المدرّس في زاوية الاوزاعي، وفي المقبرة قبر الشيخ جبارة من اولاد الشيخ حسن الراعي المشهور قبره في دمشق بقرية قطن». 
وجاء كلام النابلسي بعد زيارته لزاوية ابن الشويخ القادرية الملاصقة لسور بيروت الغربي والمطلة على البحر (والتي اصبحت بعد سنة 1840م تعرف بجامع المجيدية) وزيارة مدرسة الامام عبد الرحمن الاوزاعي (في السوق الطويلة) فتكون المقبرة المشار اليها هي مقبرة السنطية. ويستدل من ذلك الى وجود هذه المقبرة البيروتية قبل زيارة النابلسي لها. علماً بأن قول النابلسي عن الشيخ جبارة  بأنه «من اولاد الشيخ حسن الراعي» لا يعني بالضرورة ان الشيخ جبارة هو من ابناء الشيخ حسن او من احفاده الاصلاب وقد يكون  من ابنائه القلبيين، الذين درّسوا يوماً ما في الزاوية واقاموا في بيروت ودفنوا في مقبرتها.
  ويفسر دفن الشيخ جبارة في السنطية، ان هذا الموقع  تحول بين سنتي 1203م و1291م الى مقبرة لمن توفي أو استشهد ممن صمد خلال الحكم الصليبي من المجاهدين. وتظهر الصور القديمة نسبياً لمقبرة السنطية قلة الأضرحة فيها وتباعدها عن بعضها.  ولا نبالغ اذا اعتبرنا ان التوسع الذي اصاب منطقتي ميناء الحسن ودار المريسة ثم بناء جامع  عبدالله بيهم دفع  سكان تلك المحلتين الى دفن موتاهم في مقبرة السنطية الى جانب من سبقهم  من مرابطي بيروت من أحفاد التابعين وتابعي التابعين. 
واذا صح ما نقلناه من ان الصليبيين هدموا مساجد بيروت وان اهلها تناقصوا حتى لم يجتمع منهم العدد الشرعي لصلاة الجمعة فيصح القول ايضاً بأن مقابر المسلمين غيبت ودرست آثارها، وان ذلك استمر حتى سنة 1291م حين حرر المماليك بيروت واستعادوها. ما ادى  الى تكاثر المسلمين في ارجاء المدينة وتزايد الدفن فيها مع تزايد السكان والعمران ولاسيما بعد انشاء ابن عراق زاويته سنة 1517م واتخاذ بيت الأوزاعي مدرسة من قبل أحمد عز الدين وانشاء سنة 1529م السبيل المبارك برسم الزاوية العمرية. وإنشاء الشيخ علي القصار زاويتة الشهيرة سنة1680م، وإنشاء زاوية ابن الشويخ القادرية سنة 1699م للمرابطة قبل تحولها سنة 1840م الى جامع المجيدية وأخيراً تحول زاوية ابن عراق الى مدرسة بإمامة عبد الغني البنداق. 
تساكنوا في الحياة وتجاوروا في الممات: مقبرتا اللاتين والسنطية
من المنطقي القول ان استقرار  حكم الصليبيين مدة 171 سنة  دفع الرحالة والتجار الأجانب الى الاستقرار فيها وبناء ما يمكنهم من السكن وممارسة التجارة واستيراد الغلال المختلفة وانشاء الخانات والمخازن داخل السور وخارجه. وكانت المنطقة الموازية من خارج السور الغربي لبيروت للدرب الطويلة قبل انشاء السوق الجميل مستودعاً للغلال وأعلاف المواشي ما برر تسميتها بالطويلة من التركية TAVILA (اي اسطبل)، علماً بأن تلك المحلة من باب ادريس نزولا الى البحر كانت كما أثبتنا في كتابنا منزول بيرزت  مستودعاً للغلال تتكدس فيها الحبوب وتتجمع البهائم والعربات وتتطاير منها الأتربة والغبار وكانت تضم عند ساحلها المسلخ القديم والمحطب والكرنتينا القديمة. 
ومن المتفق عليه ان الحكام في تلك الفترة والتجار والرحالة كانوا في غالبيتهم من الأجانب ممن اطلق عليهم لقب اللاتين وحتى بعد سيطرة المماليك على بيروت كان للتجار اللاتين الدور الأول في ترميم كنيسة المخلص وتولي رهبان الفرنسيسكان خدمتها حتى قال فولني في رحلته سنة 1784 بأن التجار المقيمين في سوريا اتخذوا وكلاء من الوطنيين اصحاب «الطقس اللاتيني».
واذا رجحنا توقف دفن المسلمين في مقبرتي المصلى والصحابة خلال الفترة بين 1203 و1291م فنميل الى تحول المسلمين الى موقع السنطية خارج السور الغربي لدفن مواتهم. فيما اتخذ الفرنجة اللاتين بقعة المجاورة للسنطية خارج السور لدفن موتاهم في ما عرف قبل الحرب اللبنانية بمقبرة اللاتين، والتي يمكن التثبت من تاريخ نشوء هذه المقبرة من خلال كتب الرحالة. 
 
 *محامٍ ومؤرخ