بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 أيار 2022 12:00ص وراق بيروتية (63) 1226هـ/ 1811م القاضي أحمد الأغر يُثبت شروط وقف إبراهيم العيتاني (2/3)

حجم الخط
 في التاريخ المذكور (1226هـ/ 1811م) صدرت وثيقة عن قاضي بيروت الشرعي الشيخ أحمد الأغر قرّر فيها أوضاعا وحقوقا لم يلحظها قرار التولية القديم ولا حدّدت في كتاب الوقف المجهول، وقد نشرت الوثيقة المذكورة في كتيب بني العيتاني الذي أعدّه المحامي محمد زكريا عيتاني.

ما أثبتته وثيقة 1226هـ/1811م
أثبتت الوثيقة التي أصدرها القاضي الشيخ أحمد الأغر عدة أمور منها:
1- ان المستحقين من الوقف هم ستة أصلاء وأنسالهم وأعقابهم الذكور دون الإناث سكنا واسكانا هم:
- أحمد بن مصطفى العيتاني.
- مصطفى ابن صالح الغندور العيتاني.
- الريس أبي خليل ابن محمد الحص العيتاني.
- قاسم ابن حسن الفرد العيتاني.
- محمد ويوسف وعمر وناصر أبناء حسين بيهم العيتاني.
- مصطفى وعبد الله بوصاية محمد عليهما.
2- الحكم بتوافق الستة المذكورين على الدور المعروفة بهم والتي هي بأيديهم.
3- ان الدور المذكورة موقوفة من جدّهم الأعلى دون التثبت من سلسلة النسب لهم الى الجد الأعلى الواقف.
4- ان الوقف هو على ذرية الجد المشار إليه الذكور وعلى ذرية الذكور وذرية ذريتهم وعلى أنسالهم وأعقابهم الذكور دون الإناث سكنا واسكانا، علما بأن هذا الشرط لم يظهر في وثيقة سنة 1625م ولا يُعرف ما إذا ورد في وثيقة الوقف الأصلية المفقودة.
5- الحكم بأن أمر دور الوقف جاري على ما هو معهود عند قوامها السابقين، بأن من مات من الذرية يعطى نصيبه لذريته وتكون مقسومة بينهم على ستة أسهم.
وهكذا حدّدت وثيقة 1226هـ ما لم يذكر في وثيقة التولية القديمة ولا ورد في وثيقة الوقف الأصلية توزيع منافع الدور على المستحقين ولا يذكر في قرار القاضي الأغر من هم القوام السابقون ولا كيف تثبت منهم ولا سيما ان المدة الزمنية بين التولية على الوقف وقرار الأغر تبلغ حوالي مائتي سنة؟
وكان من شهود الوثيقة السيد محمد ابن النقيب وولده مصطفى ومصطفى ومحمد فتح الله وذيب محرم وحسن الجبيلي وحمد عز الدين وأحمد ابن مصطفى آغا والشيخ سيد التكرور والسيد محمد...
النظر بأمور الوقف بغياب المتولّي
الجدير بالملاحظة ان القاضي الأغر نظر في شروط الواقف غير المعروفة وتثبّت من المستحقين وكيفية انتفاعهم بأعيان الوقف في غياب أي متولٍّ أو ناظر للوقف الواجب توفّره. ويتبيّن من كل ذلك ان القاضي أخذ بتوافق ما اعتبر انهم المستحقون دون الإشارة الى وجود ناظر أو متولي، فمن المتفق عليه انه إذا لم يتبيّن لمن تكون الولاية على الوقف فالولاية للقاضي الذي جعل الحاكم له ذلك لأنه نصّب ناظرا لكل من عجز بنفسه عن النظر. فالوقف كاليتيم الولاية عليه للقاضي والأولوية للواقف ثم للناظر في الوقف الذي هو ولي على مال غيره كالوصي.
المهايأة بين الأصلاء الستة المستحقين
تبيّن من وثيقة القاضي الأغر تثبيت التوافق غير الثابت الجاري قديما بتوزيع منافع الوقف على ستة أصلاء. وهو نوع من قسمة المنافع أي مهايأة كما نصت عليها المادة 1174 من مجلة الأحكام العدلية المأخوذة من أرجح الأقوال من المذهب الحنفي وهو مذهب الأحناف الذي فرضوه في المعاملات في المحاكم الشرعية. وقد أجيزت هذه القسمة استحسانا بالإجماع ذلك ان المهايأة تجمع المنافع على التعاقب بينما القسمة تجمع المنافع في زمن واحد. وقد توافق المستحقون الأصلاء الستة بالمنافع على التعاقب بحيث تحلّ ورثة أحدهم محل مورثهم وان ذلك كما كان يجري عليه القوامون السابقون. وهذه القسمة جائزة شرعا لأنه يمكن الانتفاع من الدور والأراضي مع بقاء عينها، فالتوافق هنا هو كالمهايأة في المكان وهي أعدل لانتفاع كل مستحق في زمن واحد، وفي هذا الشكل من المهايأة يمتنع على القاضي أن يقرع بينهم، بينما في المهايأة الزمنية يجب إجراء القرعة بين المستحقين نفيا للتهمة.
فمن أمثلة القسمة الزمنية ما بيّنته الوثيقة المؤرخة في 17 جمادى الأولى 1297هـ/ ففي دار كائنة في زاروب الطمليس اشتملت على أربعة بيوت سفلية وأربعة علوية مشتركة بين الحاج عباس مصطفى صالح جدايل وله أحد عشر قيراطا وبين زينب وعائشة ونفيسة وسعدى بنات الحاج مصطفى بدر وفاطمة عطشان ولهن ثلاثة عشر قيراطا فأجريت المهايأة على الدور أن ينتفع عباس أحد عشر شهرا والنسوة ثلاثة عشر شهرا، ثم أقرع بينهما فخرجت القرعة على أن تنتفع النسوة أولا، فأمر الحاج عباس أن يفرغ الدار ويسلّمها لهن لينتفعن في المدة المذكورة أولا ثم يسلّمنه إياها لينتفع بها في مدته.
فالمهايأة التي تقررت بموجب وثيقة 1226هـ هي نوع من الافراز تجمع منفعة كل من الأصلاء في مكان مستقل، وبعد أن تمّ التوافق بينهم على ذلك لم يعد من الجائز فسخ المهايأة الحاصلة بالتراضي بعذر أو بدونه، كما لا تبطل المهايأة بموت أحدهم.
فقدان السجلات السابقة لوثيقة 1226هـ/ 1811م
من المعروف من أقوال الفقهاء قديماً ان الوقف لا ينشأ قانوناً إلا إذا تم الإشهاد على يد حاكم شرعي أو مأذون من قبله، فإذا لم تكن له بيّنات رجع القاضي الى سجلات القضاة السابقين ان كان مقيّدا في سجلاتهم فإن لم يكن من سجل جرى العمل بما كان عليه القوام السابقون. ومن هنا كان من الضروري تسجيل الوقف كل مائة سنة من الزمن. وقد استدرك القاضي الأغر في وثيقة سنة 1226هـ أي بعد مائتي سنة على آخر وثيقة معروفة للوقف بأن استند الى توافق المستحقين على انهم من ذرية الواقف فنصّ صراحة على ان ذلك «الجاري أمر تلك الدور على ما هم معهود عند قوامها السابقين بأن من مات من الذرية يُعطى نصيبه الى ورثته» فأثبت ان الوقف ذري على الذكور دون الإناث. وهكذا أخذ بأقوال الذين ذكرت أسماؤهم كمستحقين دون سواهم.
التواتر والسماع وتظاهر الأخبار من لفيف من الناس
استند القاضي الشيخ أحمد الأغر على توافق الأصلاء الستة المذكورين في الوثيقة على انهم المستحقون للوقف وان الوقف على ذرية الواقف الذكور وأولادهم الذكور دون الإناث، كما أقرّ توافقهم على كيفية الانتفاع بالوقف. وفي غياب أية وثائق سابقة وأية سجلات شرعية لقضاة سابقين يمكن تفسير جملة الأغر «على ما هو معهود عند القوام السابقين» على انه اعتمد على ما كان متواترا في البلدة من جهة وعلى الثقة بأقوال المستحقين المشار إليهم وعلى مركزهم الاجتماعي واحترام الناس لهم.
قال ابن القيم الجوزية ان على القاضي أن يتحرّى الحق بأي طريق لأن البيّنة ليست إلّا طريقا للوصول الى الحق الواجب نصره وتثبيته، فإثبات وقف قديم وشيوع التعامل في إدارته وتعيين مستحقيه مبني في الأصل على السماع والشياع وذلك قبل أن يفرض الفقهاء الإشهاد على الوقف من قبل حاكم أو مأذون من قبله، فمتى شاع بأن عقارا معيّنا هو موقوف وشيوع المستحقين منه واستمرار التعامل مدة طويلة فلا يُعدّ من ريبة بما شاع وذاع وملأ الأسماع. والسماع نوعان: أحدهما من المشهود عليه ومنها ما تظاهرت به الأخبار واستقر في محيط معيّن يلغي حد الاستفاضة وهي مأخوذة من فيض الماء لكثرته. والقول بالسماع كما قال الإمام مالك رضي الله عنه «وليس عندنا من يشهد على أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع». وقال كما جاء في «المغني» لابن قدامة «السماع في الاحباس والولاء جائز».
وتأتي عبارة وثيقة سنة 1226هـ بأن اتفاق المستحقين على أمر تلك الدور على ما هو معهود عند قوامها السابقين وعبارة «الدور المعروفة بهم التي هي بأيديهم... المشهورة... الموقوفة من جدهم الأعلى...» يفيد تظاهر الأخبار بصحة أقوال المستحقين المبيّنين في الوثيقة بما قرّروه من قدم الوقف وشيوع شروطه تحت أنظار واسماع البيارتة المجتمعين سنة 1226هـ/ 1811م في البقعة الصغيرة ضمن السور ودون أي اعتراض، فلا يجوز اتفاقهم على الكذب، وكان أكثر مما رأته دائرة الفتوى في المشيخة الإسلامية العثمانية باشتراطها أن لا يقلّ العدد على عشرين رجلا. «وهو ما عبّر عنه باللفيف من الناس وهم جماعة ملتف بعضهم على بعض»، وفي سورة الأسراء (الآية 104) {فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاُ}.
وقد نظّم بعضهم المسائل التي يقبل فيها السماع بستة منها أهل الأوقاف فقال:
إفهم مسائل ستة واشهد بها
من غير رؤياها وغير وقوف
نسب وموت والولادة وناكح
وولاية القاضي وأهل وقوف

* مؤرخ