بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 حزيران 2022 12:00ص أوراق بيروتية (67).. وقف محمد اللبّان الداعوق بيته على عتيقه عبد الله

وثيقة وقف اللبان وثيقة وقف اللبان
حجم الخط
روى محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تنشد بيت لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهموبقيتُ في خلفٍ كجلد الأحدبِ
ثم تقول: رحم الله لبيداً لو أدرك الزمن الذي نحن فيه. قال عروة: رحم الله عائشة فكيف بها لو أدركت الزمن الذي نحن فيه؟! قال هشام بن عروة: رحم أبي، فكيف لو أدرك الزمن الذي نحن فيه؟! قال الطبري: رحم الله هشاماً، فكيف لو أدرك الزمن الذي نحن فيه؟! ونحن نقول ذهب زمن المودّة والتراحم، وعهد التزاحم على فعل الخير والتمسّك بالأخلاق الحميدة والتربية الصادقة ولكننا نقول أيضاً:
نعيب زماننا والعيب فيناوما لزماننا عيب سوانا

تحرير البيارتة للأرقّاء والإحسان إليهم
كان نظام الرق معروفاً في بيروت قديماً، وقد عرف العديد من الأرقاء والجواري في قصور الولاة والمتصرفين وفي بيوت الأغوات وكبار التجار والأعيان. وتشير الوثائق التاريخية الى المعاملة الحسنة التي عوملوا بها، فقد منحوا كل الضمانات وتمتعوا بكل الحقوق دون تمييز. من أمثلة أخلاق البيارتة إحسانهم الى عتقائهم، كما تثبت الوثائق العائدة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر, وإذا كانت الظروف قضت باسترقاق البعض، فقد كان عتقهم قربة وكفّارة في آن معاً. وقد سارع كثيرون الى تحرير أرقائهم. نذكر ان أحمد أباظه، الرئيس السابق لبلدية بيروت، أعتق جاريته حليمة بنت عبد الله الزنجية. وأعتق محمد قرنفل عبده جوهر بن عبد الله. وأعتق رجب المورلي رقبة مملوكته قدم خير بنت عبد الله الحبشية وذلك في المجلس الشرعي في بيروت سنة 1875م، وكذلك فعل محمد شريف أفندي محاسبجي لواء بيروت فأعتق مملوكته وجعلها حرّة لوجه الله تعالى رجاء أن يعتق بكل عضو منها عضواً منه من النار. وكذلك فعل فخري بك رئيس البلدية السابق. وامتدّ هذا التقليد الى الأجانب، ففي سنة 1864م أعتق السنيور بورطاليس الفرنساوي رقبة مملوكته خيزران بنت عبد الله الزنجية.
ونظرت عامة الشعب الى عنترة وأبي زيد الهلالي باعتبارهما من الأبطال الشعبيين دون النظر الى سواد لونهما، وكذلك الى المملوك الظاهر بيبرس الذي شارك في طرد التتار والصليبيين.
صفحات بيضاء للأرقّاء السود
في سنة 1860م وقفت فاطمة بنت عبد القادر الجبيلي الشهير بأبي راسين دارها الكائنة في محلة البازركان وخصصت المربع الشرقي من الدار لسكن مرجان عتيق زوجها مدة حياته ومن بعده الى ذريته. وكانت للسود صفحات بيضاء في سجل الخير لا تقلّ بياضاً عما سجله البيض. فمن النماذج ما أجراه الحاج ريحان بن عبد الله الزنجي الذي حضر الى المجلس الشرعي في بيروت سنة 1907م وبعد أن عرّف عنه الشيخ محمود ابن الحاج محيي الدين الشميطلي والشيخ مراد ابن الحاج محمود العريس، قرّر بمواجهة الشيخ عبد الرحمن الحوت قائمقام نقيب أشراف بيروت ابن المرحوم الإمام محمد الحوت الناظر على الوقف لأجل تسجيله، انه وقف أرضه الكائنة في حي الباشورة المشتملة على أغراس متنوعة وعلى بيتين وذلك على نفسه مدة حياته ومن بعده يكون ذلك وقفاً على جامع المصيطبة وجامع الأشرفية وجامع القنطاري وجامع قريطم، وعلى أن تصرف غلّة الوقف على الجوامع المذكورة على السويّة لكل واحد منها الربع وجعل التولية للشيخ عبد الرحمن الحوت.
الصدقات الجارية والمبرّات
وبعد فلما كانت الصدقات من أجلّ القربات وأفضل الأعمال الصالحات وأجمل المبرّات وأحسن الطاعات، وكان من أفضلها وأعظمها أجراً وثواباً الصدقة الجارية لأن أجورها عند صاحبها إلى انقراض الزمان غير منقطعة، بل هي متصلة متوالية تجري على فاعلها إلى يوم القيامة، كما ورد بذلك حديث ذي المراتب العالية والمقامات السامية أفضل الرسل الكرام محمد المصطفى عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام بقوله: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث، وعدّ منها الصدقة الجارية. رغب كل سعيد ومن ألقى السمع وهو شهيد. وكان ممن رغب فيها ابتغاء لوجه الله الكريم ورغبة في ثوابه العميم وطمعاً في دخول الجنة دار النعيم، فراراً من العذاب الأليم وخوفاً من دخول السعير والجحيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم يجزي الله المتقين ولا يضيع أجر المحسنين، ويوم توافي الصدقة صاحبها وهي كالجبل العظيم، الرجل الكامل محمد ابن المرحوم محمد اللبان الداعوق.
وقف محمد ابن محمد اللبّان الداعوق داره على عتيقه عبد الله
في 29 رمضان سنة 1259هـ/ 1843م حضر بمجلس الشريعة الشريفة المطهرة الغرّاء الزهراء بمدينة بيروت المحروسة السيد محمد ابن محمد اللبان الداعوق ووقف وحبس وخلّد وأبّد وسرمد وتصدّق لما هو له وجارٍ في ملكه جميع الأودة المعروفة به والمشهورة قبله بأوده ديبو (الحمراء) بمزرعة رأس بيروت ملاصقة لبرج الحمراء المشتملة على أرض وأشجار توت وبري وفواكه وعمار برج يحتوي على ثلاثة بيوت مسقوفات بالجسور والأخشاب ومطبخ ويعلوهن عليّتان وإيوان ومصيف يصعد إليهن بسلم حجر من المراح، يحدُّ الأودة قبلة ملك خطار تلحوق وشرقا طريق خاص وشمالا طريق سالك وغربا ملك ورثة الحاج يحيى شهاب وتمامه ملك محمد ابن علي الشخيبي وقفاً على نفسه مدة حيلته أبدا ما عاش ثم من بعده فعلى زوجته طاهرة بنت المرحوم الشيخ محمد الصيداني أبدا ما عاشت ما عدا البيت المسقف بالأخشاب الذي هو سفلي العليّة الصغيرة احدى الثلاث بيوت فهو موقوف على ابن أخيه علي حسن اللبان ثم من بعده فعلى أولاده وأولاد أولاده ذكورا وإناثا. ثم من بعد زوجته طاهرة فعلى عبد الله عتيقه ومن بعده على أولاده وأولاد أولاده... وأنساله وأعقابه ذكورا وإناثا، وإذا انقرضوا عاد الوقف الى قفة الخبز الموقوفة على الفقراء والمساكين بمدينة بيروت.
تكريم الواقف والوقف بالشهادة على الوقف
ولما كان العمل الكريم يترك أثره في المجتمع وتكريمه يدفع غيره للاقتداء به وتقليده فالعمل الكريم لم يكن يكرم باللفظ الكريم فحسب، ولكن يتم تكريمه من قبل كرام القوم وذلك بحرصهم على التوجه إلى مجلس الشرع الشريف للاشتراك بسماع إقرار فاعل الخير بعمله والشهادة عليه سواء كان الواقف مسلماً أو مسيحياً. وقد حضر المجلس الشرعي وشهد على الوقف عمدة العلماء الكرام العلّامة الفاضل السيد محمد أفندي حلواني زاده المفتي بمدينة بيروت. وفخر الفضلاء السيد محمد الحوت وفخر الفضلاء السيد عبد الله خالد وسعد الدين بن عبد الرزاق مشقية وأحمد ناصر زنتوت وصالح قرنفل ومصطفى قرنفل وأحمد عبد الرحمن الصيداني وسعد الدين يحيى شهاب وعبد الله سعادة وحسن محمد علوان وأحمد عبد الله فخري ومحمد فخري.
بعدما كان الكرام يحتشدون للاحتفال بالعمل الكريم غدونا نشهد حشوداً لتكريم أعمال من نوع آخر، وتنوّعت من افتتاح سوبر ماركت ووضع حجر أساس لبرج تجاري وتدشين فندق ومطعم وكباريه الى المباشرة بتنظيم معرض للمأكولات ومهرجانات غنائية حول نصب الساعة وصولاً الى المباهاة بأضخم صحن حمص وأكبر منقوشة وأضخم قرص فلافل، وما يواكب ذلك من أخذ صور تذكارية وصور «سيلفية».
وقف شريفة حموي دارها على سليم وحليمة ولدي عبد الله
ولما كان العمل الصالح هو إسوة حسنة فقد سارعت شريفة بنت قاسم الحموي في السابع من شهر شوال سنة 1266هـ/ 1850م الى المجلس الشرعي ووقفت وحبست وأبّدت وخلّدت ما هو لها وجارٍ في مُلكها وتصرّفها جميع دارها الكائنة في سوق الحدادين الشهيرة بدار عباس المشتملة على أرضية مسقوفة بالجسور والأخشاب وأوده صغيرة وفسحة دار سماوية حجرية ومطبخ الواقعة علوي قهوة سوق الحدادين المحدودة قبلة دار الحاج حسن الحص شيخ المكارية وشمالا دار بني الحداد وشرقا طريق سالك وغربا دار الحاج حسن طبارة وقفا على نفسها ومن بعدها فعلى سليم وحليمة ولدي عبد الله عتيق الحاج محمد أبو علي الداعوق اللبان وعلى ذريتهما، وإذا انقرضوا عاد الوقف على الفقراء والمساكين يوزع ذلك في مدينة بيروت. وشهد على الوقف الشيخ اعرابي الزيلع وعمر السقعان ومصطفى قرنفل والشيخ علي طبارة وحسن بلوز ويوسف قدورة والحاج محمد أبو علي اللبان وعلي اللبان ومحمد عبد الله العيتاني وغيرهم.
اللبان من اللّبَن لا من اللّبِن
أسرة الداعوق بيروتية عتيقة ولها في بيروت آثار تُذكر فتُشكر ومنها فرع يلقّب باللبان، وهذا اللقب قديم أيضا بدليل ان صالح بن يحيى في «تاريخ بيروت» ذكر ان الأمير سيف الدين يحيى حجّ الى بيت الله الحرام وحجّ معه ولده والحاج محمد اللبّان من بيروت. واللبّان منسوب الى من يتعاطى صناعة وتجارة الألبان ولا صحة لمن ينسبه الى اللّبِن (الطين) لأن بيوت بيروت مبنية بالحجر الرملي المستخرج من مقالع المصيطبة وكذلك السور من حجر أيضا الذي ردّ عن المدينة حملات الأجانب، علما بأن دعوة البلدية أهالي الحرف سنة 1881 الى انتخاب رؤساء لهم، فكان من بينهم المعمارية والرمالة والنجارين والدهانين والمرخمين والمقلعجية ولم يكن اللبّانة منهم.
* مؤرخ