بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

12 كانون الثاني 2021 07:01ص الجيش العراقي لم يكن بائعاً للزهور

حجم الخط

في كلمته الاحتفالية بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الجيش العراقي قبل أيام قليلة، أطلق رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، فيضاً من عبارات المديح والتمجيد والافتخار والتقديس بالجيش العراقي، صانعاً من الاحتفالية أجواء تشبه خطابات قادة الانقلابات العسكرية التقليديين وفضاءات زعماء الأنظمة الشمولية.

فعل الكاظمي ذلك في دولة تغرقُ مع مجتمعها الداخلي في كل أشكال الخراب: فشل اقتصادي مُريع، يفرز يومياً آلاف العاطلين عن العمل، يعيشون تحت هيمنة المئات من الفصائل الميليشيوية الطائفية، التي تمارس عُنفاً أهلياً ونهباً عاماً دون حدّ، مع قروح مريعة في الذاكرة الجمعية للجماعات الأهلية، المُتخمة بدماء سُفكت فيما بينها طوال عقود كاملة، وعلى جنبات ذلك مُدنٌ مُدمرة وملايين من المهجرين وضحايا لا يُعدون ولا يُحصون.

تذهب كل الدلائل والمعطيات والشواهد إلى أن الجيش العراقي كان فاعلاً ومنفذاً حاضراً في كل هذا الخراب العراقي طوال قرن كامل مضى. فقد كان هذا الجيش العراقي يُعيد إنتاج نفس الأنماط من السياسات والأدوار في الحياة العامة العراقية، خلال مختلف مراحل وأنظمة حُكم الدولة العراقية، التي كانت بالضبط مجرد مزيج واضح من الانقلابات على الحياة السياسي وقيادة جماعة أهلية عراقية ما للفتك بأخرى، اقتراف مقبرة جماعية هنا وتشييد سجون سرية هناك.. إلخ.

تكررت أفعال وأدوار الجيش العراقي تلك بشكل نمطي ورتيب. وحيث أن تكرار وتطابق أفعالها، إنما يثبت وجود بنية وهوية داخلية واضحة لهذا الجيش، لا يمكن تغليفها أو ردها أو تبريرها بوجود نظام سياسي أو زعيم شمولي حكم العراق خلال فترة ما من هذا القرن. فالجيش العراقي بهذا المعنى إنما هو ذات فاعلة بنواته وكينونته الصلبة، تتغير بعض ملامحه وعقائده ورموزه وخطاباته الظاهرة بين مرحلة وأخرى، لكنه، جوهراً، يبقى نفس الكائن الذي أنتج طوال مراحله الأفعال نفسها.

ما فعله الكاظمي هو القفزُ "البسيط" فوق كل ذلك: التبرئة المُطلقة للجيش العراقي من كل هذه التركة الجهنمية، وكأنه كان خارج الزمن والفاعلية إلى أن وصل العراق لما هو عليه.

يمثل الكاظمي طيفاً واسعاً من النخبة السياسية والحزبية والعسكرية العراقية، الذين يُمكن إدراجهم في خانة "عُباد الجيش"، إذ تراكمت أفكارهم وتنظيماتهم وخياراتهم العامة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى الآن، المتمركزون حول مؤسسة الجيش العراقي، التي يرونها حامياً وضامناً وحيداً لوحدة واستمرار الكيان العراقي، الكيان الذي يحفظ لهذه النُخبة مواقعها المتمايزة اجتماعياً واقتصادياً وسلطوياً ضمن هذا الكيان، مقابل غضهم النظر تماماً عن أي شيء قد يقترفه هذا الجيش، بحق البلاد وسكانه الداخليين.

في عهده الملكي، نفذ الجيش العراقي انقلابين عسكريين. أطاح أولهما، الذي قاده بكر صدقي عام 1936، بكل الحياة السياسية المدنية في البلاد، بعد أن كان الضابط العسكري نفسه قد اقترف "مذبحة عامة" بحق أبناء القومية الآشورية في "بلدة سيمل" شمال البلاد قبل ثلاثة سنوات فحسب.

الانقلاب الثاني، هو الذي قاده الضابط ذو الميول النازية، رشيد عالي الكيلاني عام 1941، لكن حُسن طالع العراقيين وحده من أنقذهم من براثنها، بفضل الاحتلال البريطاني. بين الانقلابين وبعدهما، كان الجيش العراقي في الزمن الملكي يقضي بين فينة وأخرى على الحركة القومية الكردية، وفقط عبر محق المقاتلين وقصف وتفريغ القُرى الكردية في منطقتي السليمانية وبارزان من سكانها المدنيين.

في عهد عبد الكريم قاسم، تفتحت براعم سلطة الجيش العراقي بمذبحة العائلة المالكة، ومن ثم دشنوا ثقافة سحل جثث المعارضين في الشوارع، واستقروا على اجتراح شراكة الجيش دموية بين ضباط الجيش وطبقة "الرعاع".

العسكر القوميون، الذين انقلبوا على قاسم بعد خمسة سنوات فحسب، أعدموا قاسم وصحبه في مبنى الإذاعة، وما أن غسلوا أياديهم من جثته، حتى بطشوا ببعضهم البعض، وفي الطريق استمروا في حروبها الأبدية تجاه الشعب الكردي لتطويعه.

عساكر البعث، الذين انقلبوا على شركائهم القوميين عام 1968، عملوا كمدحلة عامة محقت كل شيء في طريقها، من تصفية كل الضباط القوميين، مروراً بحرب أهلية مغلفة، ضد "القواعد الشيعية" التي كانت توالي الحزب الشيوعي العراقي، وأضافوا المتدينين الشيعة إلى القوميين الأكراد في هواية "الإبادة الجماعية"، التي ما وفرت الأسلحة الكيماوية وقصف المدن مروراً بالحصار حتى الموت العام.

في عهده الأخير، بعد العام 2003، كان الجيش العراقي كائناً وحشياً لحماية هيكل الدولة الطائفية، لتكون طيعة وترعى ولاء/تابعية الدولة العراقية بكاملها لدولة أخرى، منفذاً تفاصيل ما يُطلب منه كجهاز تنفيذي لما ترسمه وتفرضه الأحزاب الطائفية الحاكمة.

لم يرَ الكاظمي في كل ذلك أي موجبات لإعادة التفكير بهوية وأفعال الجيش العراقي، وربما الاعتذار الرمزي، ولو لمرة، لأنه القائد العام لهذا الجيش، خصوصاً وأنه القادم من عالم الثقافة والمعارف وحقوق الإنسان وإحصاء المجازر الجماعية التي نفذها هذا الجيش. لكنه، مثل غيره ممن قد يأتي لحُكم هذه البلاد، لن يفعل ذلك، لأنه يمس جوهر وعيهم ومصالحهم ومواقعهم في هذا الكيان العراقي.

فالجيش العراقي الذي تأسس قبل قرن من الآن، إنما تكوّن كنواة حُكم سابقة للتأسيس الرسمي النهائي للدولة العراقية نفسها. كان هذا الجيش يتألف من نُخب عسكرية خارجية، خولها الاحتلال البريطاني مهمة الحفاظ على الدولة العراقية، التي أسسها البريطانيون من تركيب جغرافي وأهلي شديد الغرابة وحتى التنافر عن بعضهم البعض.

بقيت هذه المهمة والهوية كثيرة الأصالة والفاعلية في بنية الجيش العراقي على الدوام، كذات تعتبر نفسها حارساً على سياج كيان لا حدود لتركيبه الغرائبي، وفي سبيل ذلك مستعد لفعل كل شيء، بما في ذلك قتل سكان مدينة كاملة كسيمل الآشورية أو حلبجة الكردية بين ليلة وضحاها.

كذلك كان هذا الجيش سدنة لهيمنة جماعة أهلية عراقية ما على الأخريات من الجماعات الأهلية، وعلى البلاد. كان العرب السُنة التشكيل التقليدي الذي حفظ لهم الجيش مكانتهم تلك لأكثر من ثلاثة أرباع قرن، العرب الشيعة بعد العام 2003 أخذوا المكانة نفسها، ومارس الجيش مهامه التقليدية ذاتها، كحافظ لتمايز مكانة جماعة أهلية عراقية على الأخريات.

بهذا المعنى، وحتى يحافظ الجيش على مكانة "جماعته" الاهلية في سدرة حُكم البلاد، فإنه ما توقف بتاتاً عن خوض حروب أهلية مقنعة.

فوق الأمرين، فإن الجيش العراقي كان على الدوام المؤسسة الأكثر عطالة في بلدٍ كثير النفط. فزيادة الموارد، منذ أربعينيات القرن المنصرم، دفعت مختلف السلطات الحاكمة للبلاد لتحويل الجيش إلى أكبر فضاء لاستيعاب البطالة الريعية المقننة، هذا الاستيعاب الهائج دفع الجيش لأن يكون غولاً من الضباط والعناصر الشعبويين، الذين كانوا يُفرغون فائض قوتهم وبطالتهم في حروبهم الإقليمية أو مذابحهم الداخلية.

المصدر: الحرة