بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

8 آب 2021 08:47ص الصين في المنظار... ولكن!

حجم الخط
قد يكون ما سأطرحه في السطور التالية من وجهة نظر شخصية باعثاً ومحفزاً على اختلاف في الآراء. لكن الاختلاف في الرأي ما لم يشتطّ ويخرج عن حدود الأدب والاحترام المتعارف عليها لن يفسد للود قضية. فمن خلال متابعتي ورصدي، طيلة سنوات طويلة، لآلية عمل وسائل الإعلام في الغرب تبيّن لي أنها تعمل بشكل لا يختلف كثيراً، إلا من حيث الفارق، عن آلية عقلية القطيع.

على سبيل المثال، يجد المتابع لها أن الصين، خلال الفترة الزمنية الأخيرة قد أضحت هدفاً لعناوين الأخبار والتحليلات والمقابلات والبرامج الإخبارية التي تناقش ما توصف بقضايا الساعة، وبشكل يومي. لا أحد يخاطر بتسفيه هذا الاهتمام الملحوظ، ولا أحد يجرؤ على التقليل من شأن ما تمثله الصين من خطر على العالم الغربي وعلى ديمقراطيته وهيمنته اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وآيديولوجياً وعسكرياً. لكن بالعودة قليلاً إلى الوراء زمنياً، وتحديداً بعد الحادثة الإرهابية في أميركا في سبتمبر (أيلول) 2001، لم تكن الصين وما تمثله من مخاطر في أولويات أجندة الساسة وفي مرمى مدافع الإعلام الغربي. كان الإرهاب الأصولي، آنذاك، وما كشف عنه من وحشية، مَن يسيطر على أجندة أهل السياسة والإعلام.

ربما يرى كثيرون أن الأمر طبيعي ونتيجة متوقعة لفداحة الضرر الذي أحدثته التفجيرات الإرهابية في الأرواح وفي العمران في أميركا، والجرأة الانتحارية غير المسبوقة التي نُفِّذت بها تلك العملية وما تلتها من عمليات إرهابية في مختلف البلدان، وبخاصة الأوروبية منها. وأفضى ذلك بدوره إلى إحداث تغييرات في توجهات وأولويات السياسة في عواصم الغرب بشكل أدى إلى تجاهل خطر أكبر وأعظم كان قادماً من أقصى الشرق ومتجهاً غرباً. تلك السياسات الغربية، وما ميزها من ارتباك، منحت الصين فرصة تاريخية لإنجاز خططها وتحقيق أهداف سياستها في التمدد خارج أسوارها والتوجه تدريجياً وبدأب نحو تحقيق سياسة هدفها الاستحواذ على أسواق العالم في مختلف قاراته. التنين الصيني، رغم ضخامته البدنية الهائلة والأخطار التي يمثلها، ظل يواصل تحركه بثقة تحت أنظار أهل السياسة ووسائل الإعلام الغربي المشغولة، آنذاك، بتتبع تطورات الإرهاب والحركات الإرهابية.

رجال الأعمال والشركات الكبرى، خصوصاً شركات الطاقة والتقنية، في عواصم الغرب المتقدمة كانوا أكثر المستفيدين من ذلك التجاهل الإعلامي الغربي لتحركات التنين الصيني، وتمكنوا خلال تلك السنوات من امتصاص كل ما كان يضخه من أموال استثمارية عادت على الطرفين بربح وفير. رجال الأعمال والشركات الكبرى حققوا أرباحاً مالية طائلة، في حين أن الصين تمكنت من التمدد في تلك العواصم وتوطيد أقدامها في مؤسسات الغرب المالية والاقتصادية والبحثية والتقنية والتعليمية وبشكل مشروع وقانوني. ووصل الأمر في بعض الجامعات البريطانية الكبرى إلى لجم أكاديميين من الجهر بآرائهم المعارضة لسياسات الصين بسبب ما كان يدخل حساباتها المصرفية من أموال على شكل رسوم دراسية يدفعها عشرات الآلاف من الطلبة الصينيين. وحين تمكن الغرب من إضعاف حركات التطرف الإسلاموي اكتشف أن الوجود الصيني قد حل بدياره وأن دولاً غربية حليفة كثيرة قبِلت طواعيةً التحول إلى شريك للصين في مشاريع اقتصادية كبيرة تعود عليها وعلى شعوبها بالنفع. لكنها، إما لقصر في الرؤية وإما لطمع في نفع آنيّ، لم تكن تدرك تماماً أن تلك الشراكة غير المتكافئة ربما تعجّل بتحويلها بعد وقت إلى تابع للصين اقتصادياً وسياسياً. آلية تفكير وتحرك القطيع المسيطرة على الإعلام الغربي أسهمت، بقصد أو بغيره، في التسريع بالتمدد الصيني في الغرب وفي العالم.

الاهتمام الإعلامي حالياً بالصين في بلدان الغرب جاء على حساب أخطار أخرى في مناطق مختلفة من العالم، وعلى سبيل المثال أفريقيا. الأخطار تلك ممثلة في تمدد الحركات الإسلامية الإرهابية في بلدان الساحل الأفريقي، ثم في داخل أفريقيا، خصوصاً في موزمبيق. آخر الأخبار يؤكد أن رواندا أرسلت، مؤخراً قوات عسكرية كبيرة لمساعدة حكومة موزمبيق على مواجهة المتطرفين الدينيين الذين يسيطرون على أجزاء من أراضيها. هذا يوضح أن الزعم بتمكن دول الغرب من إضعاف الحركات المتطرفة دينياً لا يصمد واقعياً أمام ما يحدث في تلك الجهة من العالم، وأن المتابع لما يُنشَر في الإعلام الغربي من أخبار وتقارير قلّما يصادفه حظ ويتمكن من العثور على تقرير يتيم يكشف طبيعة الحرب الدائرة في تلك البلدان الفقيرة، وما يتعرض له استقرارها وشعوبها من مخاطر داهمة، والسبب أن آلية عقلية القطيع المسيطرة على الإعلام في الغرب حصرت اهتمامها في تطورات العلاقة بالصين، وحالت دون ملاحقة التطورات المحزنة والباعثة حقاً على القلق في تلك البقاع، وما قد ينجم عنها من تطورات تهدد دول القارة أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً.

المصدر: «الشرق الأوسط»