بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

26 كانون الثاني 2019 07:13ص حرب سوريا: الحاجة إلى "تسويتين" لا واحدة

صورة لمقاتلين سوريين مدعومين من تركيا في القرب من منبج ( أ ف ب) صورة لمقاتلين سوريين مدعومين من تركيا في القرب من منبج ( أ ف ب)
حجم الخط

لا أحد يعرف تماماً كيف تنتهي التراجيديا السورية. ولا شيء يوحي أن الفصل الأخير من التراجيديا صار قريباً، وإن تصور أكثر من طرف أن الحسم لمصلحته اقترب أو صار في اليد.

فما بدأ في سوريا ربيع 2011 ليس ما انتهى إليه الوضع حتى الآن في شتاء 2019. وما أساسه صراع في سوريا على السلطة تداخل في "صراع على سوريا" ضمن إطار لعبة جيوسياسية اقليمية ودولية. فلا قرار الرئيس دونالد ترمب المفاجئ بسحب القوات الأميركية من شرق سوريا ينهي الدور الأميركي في اللعبة، وإن بدا خطوة مجانية أفادت الرئيس بشار الأسد وروسيا وإيران. ولا أميركا كانت اللاعب الرئيسي في سوريا منذ بداية الأحداث.

والمعادلة الثابتة منذ تخلت الجامعة العربية عن دورها للأمم المتحدة بداعي العجز وصدور بيان جنيف صيف 2012 بدفع من الموفد الدولي الأول كوفي أنان ومشاركة فاعلة أميركية وروسية، وهي قول شيء وفعل شيء آخر. الكل تحدث عن الحاجة إلى تسوية سياسية وأعلن أن لا حلّ عسكرياً في سوريا. والكل مع استثناءات محددة، راهن على خيار عسكري وعمل له. والنتيجة الواضحة لاستخدام العنف في مواجهة التظاهرات السلمية الرافعة مطالب من النظام، ثم الدعوة إلى اسقاط النظام وتالياً انتقال الانتفاضة الشعبية إلى ثورة ثم "عسكرة الثورة" واندفاع الأطراف الخارجية إلى أدوار مباشرة في الداخل، بحيث صارت الثورة حرب سوريا المتعددة.

كان أكبر لاعبين في البدء هما إيران وتركيا. طهران تصرفت على أساس أن معركة سوريا هي قضية حياة أو موت بالنسبة إليها حفاظاً على "الجسر السوري" لمشروعها الإقليمي الممتد عبر بغداد ودمشق إلى بيروت على المتوسط والحدود مع إسرائيل. وتركيا راهنت على أن يمسك الأخوان المسلمون بالانتفاضة ثم السلطة، فتكون سوريا "الأخوانية" جزءاً من خريطة جيوسياسية جديدة قوامها سيطرة حركة النهضة على تونس وحركة الأخوان المسلمين على مصر، وتكون تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان هي "السلطة الجديدة" في إطار "العثمانية الجديدة". إيران دفعت وكلاءها من الميليشيات الشيعية في لبنان والعراق وأفغانستان والباكستان تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني. وتركيا سلّحت وموّلت مع أصدقاء لها في العالم العربي تنظيمات سنية متطرفة و"معتدلة. ولا نهاية للاتهامات المتبادلة بشأن القوى الاقليمية والدولية التي عملت على ظهور "جبهة النصرة" التابعة لتنظيم القاعدة ثم تنظيم داعش الذي أعلن دولة الخلافة في العراق وسوريا بعد السيطرة على نصف العراق وثلث سوريا. لكن الواقع أن الأطراف جميعاً سعت إلى توظيف النصرة وداعش في خدمة بعض أهدافها.

إسرائيل كانت من البداية تراقب وعينها على إيران وحزب الله، وتعمل من تحت الطاولة. أميركا في عهد الرئيس باراك أوباما أرادت تنحي الرئيس الأسد، وهدّدت بتوجيه ضربة عسكرية بعد استخدام النظام السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية. لكنها كانت عملياً تريد التركيز على الشرق الأقصى وترتيب توازن قوى في الشرق الأوسط بين قوى شيعية مركزها إيران وقوى سنية مركزها تركيا. ولم يكن استعمال أوباما الاتفاق النووي مع طهران سوى جزء من هذا الرهان. لكن المشروع التركي سقط بالضربة القاضية التي وجهها الجيش المصري إلى حكم الأخوان المسلمين في مصر.

المتطرفون في سوريا أمسكوا بقيادة الصراع العسكري. والنظام الذي راهن منذ البدء على الخيار العسكري لم يكن يريد تسوية سياسية بالمعنى الذي تصورته المعارضة "المعتدلة" والقوى الخارجية. لا حين كان قوياً ولا حين صار ضعيفاً، ولا حين استعاد بعض القوة بمساعدة طهران وموسكو.

واللاعب الكبير حالياً هو روسيا بالطبع. إيران عجزت عن انقاذ النظام فاستنجدت بروسيا التي تدخلت عسكرياً في خريف 2015 وقالت إن تدخلها أنقذ النظام الذي كان معرّضاً للسقوط خلال أسبوعين، كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. لكن التدخل الروسي في سوريا لم يكن لإنقاذ النظام فحسب، بل لتحقيق أهداف أكبر هي فرض موسكو كقوة عالمية واقليمية وترتيب مشاركة أميركا في ادارة النظامين الإقليمي والدولي. فضلاً عن الحصول على قاعدة بحرية وأخرى جوية في سوريا وعلى صفقات نفط وغاز، وهي حققت هذه الأهداف. وتركيا تدخلت مباشرة في شمال سوريا وشرقها بعدما عجز وكلاؤها عن تحقيق اهدافها.

ما تراهن عليه أميركا حالياً ومعها إسرائيل وقوى أخرى، هو التفاهم مع روسيا على إخراج إيران من سوريا، أو أقله تحجيم دورها ونفوذها. وما يعوق هذا الرهان هو أن موسكو تريد صفقة واسعة تبدأ بأوكرانيا ولا تنتهي بالشرق الأوسط. وهو أمر ليس ناضجاً في واشنطن. وما تريده تركيا حالياً هو السيطرة على شرق الفرات بعد غربه للتخلص مما تسميه الإرهاب الذي تمثله قوات سوريا "الديموقراطية" ذات الغالبية الكردية. وهي القوات التي حررت شرق الفرات من داعش بدعم ايراني. وهي حالياً في حاجة إلى حوار مع دمشق ومع موسكو لضمان مستقبلها خوفاً من أن تتركها أميركا لمصيرها بعدما لعبت معركتها ضد داعش.

هذه الصورة المعقدة مرشحة لمزيد من التعقيد. والمفارقة أن ما هرب منه النظام من البداية، وهو التسوية السياسية الحقيقية مع المعارضة لا يزال على جدول الأعمال الدولي. لا بل إن سوريا صارت في حاجة إلى "تسويتين" لا تسوية واحدة. تسوية لضمان الانتقال الديموقراطي في سوريا. وتسوية اقليمية ودولية لترتيب النفوذ في سوريا بين روسيا وأميركا وإيران وتركيا، بالإضافة إلى ارضاء إسرائيل ودول عربية. ومن الوهم النوم حالياً على "حرير" الانتصارات.

المصدر: Independent عربية