بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

1 شباط 2019 07:07ص عندما يكتب توينبي عن العرب والإسلام

صورة للمؤرخ البريطاني أرنولد ج. توينبي عام 1960 (غيتي) صورة للمؤرخ البريطاني أرنولد ج. توينبي عام 1960 (غيتي)
حجم الخط

إذا أنفرد بعض المفكرين والصحفيين البريطانيين بالكتابة الإيجابية عن العرب والإسلام، فإن اللندني آرنولد جوزيف توينبي (1889-1975) يعتبر الأهم والأخطر، ولإعتبارات كثيرة علميًا وعمليًا وموضوعيًا؛ فهو أكبر مؤرخي القرن العشرين، يجيد عدة لغات منها العربية، دبلوماسي، أستاذ جامعي وفيلسوف له نظرياته الحديثة في مسألة المجتمعات الإنسانية أو الحضارات.

ولقد أنفق توينبي أكثر من أربعين سنة في "دراسة التاريخ" الذي أكمله في أثني عشر مجلدًا، حيث قسم فيها الحضارات البشرية إلى إحدى وعشرين حضارة، إندثر معظمها ولم يبقى سوى بضع حضارات آخذة بمرحلة الإنحلال التدريجي وهي: الأرثوذكسية المسيحية البيزنطية، الأرثوذكسية الروسية، الإسلامية، الهندوكية، الصينية، الكورية-اليابانية؛ أما الحضارة الغربية الممتدة من غرب أوروبا إلى أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، فحسب تصوره، ما زالت مجهولة المصير. رغم أن مناطق حضارة الغرب مختلفة في ثقافاتها وقيمها وأخلاقها، بل ومتباينة في تواريخها أيضًا؛ ولا يجوز ربطها جميعًا بالمصير المجهول. أما الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى الباقية، فيجب أن لا ينظر إليها من زاوية دينية شاملة، لأن سماتها متعددة، وأن الدين ليس أكثر من أحد سماتها حسب.

هذا وتأثر توينبي ببعض الأفكار سواء عند أبن خلدون في المفهوم العلمي للتاريخ، والذي كتب عنه قائلًا: "أن أبن خلدون كان نقطة الضوء الوحيدة في ذلك الأفق، وأنه بلا ريب هو الشخص البارز في تاريخ الحضارة". وكذلك تأثر بفكرة الفيلسوف هنري برجسون: دور الأقلية المبدعة بالتقدم الحضاري، وأيضًا المؤرخ كاريل في: أهمية البطل بالتاريخ، وآخرين غيرهم.

إن إهتمام توينبي بالتاريخ العربي قديماً وحديثاً من جهة، ودراسته للغة العربية والإسلام من جهة أخرى، قادته إلى وضع كتاب عن "الوحدة العربية" التي توقعها أن تتم في منتصف سبعينيات القرن الماضي. حيث آمن توينبي بعودة السيادة العربية وتحقيق الوحدة، فقد كتب عن أستنتاجه المستقبلي في هذه المسألة قائلا: "على هذا الأساس يكون للعرب حتى عام 1974 كيما ينجزوا وحدتهم بنفس سرعة الألمان والإيطاليين". كما أيّد توينبي القضية الفلسطينية ودحضه للإفتراءات الصهيونية. ومما كتبه في هذا الصدد: أنكم تطالبون بحق اليهود في العودة إلى فلسطين، بالرغم من أنه لم يكن في فلسطين عام 1935 سكان يهود. وأن "معاملة اليهود للعرب في فلسطين مشابهة لمعاملة النازية لليهود في أثناء الحرب العالمية الثانية". وفي موقع آخر يقول: "إن جرائم النازية ضد اليهود، أقل إنحطاطًا إلى الدرك الأسفل من جرائم ضحاياها اليهود ضد الأبرياء العرب". ولكن ما يزال الباحثين والدارسين العرب منقسمين في تقييمهم إلى توينبي ما بين السلب والإيجاب. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، إن كتابه عن الوحدة العربية، أعتبرها البعض إشارة للغرب عن خطورة هذه الوحدة تاريخياً، خصوصاً وإن توينبي قد عمل في المخابرات البريطانية أيام السيطرة الإستعمارية.

على أي حال، سنتناول بإيجاز عما كتبه توينبي عن العرب والإسلام تاريخًا وحضارًة. ففي نظرية التحدي والإستجابة التي وظفها توينبي في بحث النشوء والتطور والتقدم ثم الإنحلال والإنهيار التي تصيب الحضارات قاطبًة. فيرى في تفسيره إلى ظهور الحضارات الأصلية الأولى في مصر والعراق قائلاً: "كانت شبه الجزيرة العربية والشمال الأفريقي تتمتع بجو معتدل ومراع شاسعة ومياه غزيرة، خلال نهاية الفترة الجليدية الأخيرة". وكانت المجاميع البشرية تعيش وقتذاك بشكل بدائي تقوم على الصيد والقنص وجمع الثمار والبذور. وبعدما حدث التغير المناخي وبشكل تدريجي في الفترة المناخية الدافئة التي نعيشها نحن الآن، والذي أدى إلى إنحباس الأمطار وإنتشار التصحر وجفاف الأنهار. فقد شكلَّ هذا النمط من الحياة الطبيعية تحدياً قد واجهته تلك المجتمعات، فإستجابت له بطرق مختلفة: إذ تحوّل بعضها إلى حياة البداوة ضمن قبائل رُحّل تسعى وراء الماء والكلأ وترعى المواشي التي تعيش عليها، حيث بقت على أراضيها، وهي ليومنا هذا تحافظ على نمط حياتها الصحراوي. وهذا النوع من الإستجابة سلبي لا طاقة إبداعية فيه ولا تطور. أما القسم الثاني فقد رحّل نحو الجنوب في المناطق الإستوائية المُشابهة كثيراً للبيئة السابقة، فظل محافظاً على نمط معيشته البدائية حتى يومنا هذا. والقسم الثالث رحل إلى دلتا النيل، فجابه البيئة الجديدة وتغلب على عوائقها وسخرها لأغراضه، بعد أن أكتشف الزراعة، مما أدى إلى إنشاء الحضارة المصرية القديمة. وكذلك إنتقل بعض الجماعات من شبه الجزيرة العربية إلى أهوار جنوب العراق والفرات الأسفل والذي تمخض عن إنبثاق حضارة ما بين النهرين. وهذا النوع من الإستجابة إيجابي إذ فيه العزيمة على مجابهة التحدي والتغلب عليه.

وهنا يكون توينبي متفقًا تمامًا مع المبدأ العام الذي يجتمع عليه جل المؤرخين والباحثين، ومنهم المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت (1885-1981) الذي يؤكد على أن العرب هم مهد الحضارة الأولى في التاريخ. ومن جملة ما ذهب إليه في كتابه الموسوعي "قصة الحضارة"، هذا القول: "إن الحضارة قد ظهرت في الأزمنة القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم إنتشرت منها إلى أرض الرافدين ومصر".

إن شبه الجزيرة العربية تمثل الموقع الرئيس للعرب ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، والتي كانت قبل عشرة آلاف سنة (أي قبل العصر الجليدي الأخير) تتمتع بحياة طبيعية خضراء يتخللها نهران عظيمان من شمالها حتى جنوبها. وعندما دخلت الأرض في المرحلة الدفيئة الثالثة، بدأ ذوبان الجليد في قارة أوروبا وحوض الأبيض المتوسط. وغزى الجفاف جزيرة العرب، فبقى فيها قلة تعيش حياة البداوة، وهاجر معظمهم إلى واديا الرافدين والنيل وشمال أفريقيا. وهكذا كانت هناك الحضارات القديمة من سومرية وبابلية وآشورية وفرعونية.

ويدحض توينبي "نظرية البيئة" التي تنص على أن للبيئة أثرها وتأثيرها في تكوين الحضارات، فالجو والماء والمكان الجغرافي تعتبر أركان الأساس والدافع الحقيقي لطبيعة التغيرات الحضارية. يرد توينبي قائلًا: "حقًا أن ظروف البيئة المتشابهة في وادي النيل ووادي الرافدين قد أتاحا خلق مجتمعات وحضارات متشابهة، ولكن كيف نفسر عدم وجود مجتمعات وحضارات متشابهة لمجتمعات وحضارات النيل والرافدين في وديان أخرى متشابهة لهذين الواديين، مثل وادي ريوغراندي، ونهر كلورادو".

الإسلام دينًا وحضارًة

بدأ أهتمام توينبي بالحضارة العربية الإسلامية بوقت مبكر من حياته، حيث أولى لها عناية خاصة في قراءآته ودراساته، التي ركز فيها على العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وألف كتاب: "محنة الحضارة" و"العالم والغرب". علاوة على تعمقه في بعض المؤلفات العربية ومنها: "مقدمة أبن خلدون". وفي كتابته عن الإسلام، فقد وضعه في مرحلتين رئيستين، الأولى: دينية بحتة، والثانية: دينية سياسية.

يرى توينبي أن قوة الإسلام قد تجسدت في المرحلة الأولى، وأن المبدأ الذي حمله النبي محمد عليه السلام إلى أتباعه ينحصر في "إسلام النفس لله" وحده. وأن الرسالة الإسلامية جوهرها التوحيد، فضلًا عن الحقوق والواجبات والمساواة بين الجميع. وأشارة توينبي بكل وضوح إلى "عبقرية محمد" في هذه الرسالة السماوية، حيث قال: كانت لعبقرية النبي محمد أثرًا كبيرًا في نقل رسالة ربه إلى قومه، وقد كان تاريخ شبه الجزيرة العربية مرتبطًا بذلك، وفي سنة 622 تبدل الوضع تمامًا لصالح محمد ورسالته، فقد جاءه مجموعة من يثرب يطلبون إليه أن ينتقل إليهم ويتولى أمورهم، وبعد ذلك إنتشر الإسلام في العالم.

بيد أن توينبي يرى أيضًا بأن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم لو إنه بقى داعيًا دينيًا فقط، لأصبح الإسلام أسمى روحيًا مما هو عليه؛ وإن الهجرة كانت بداية الإنحلال. وكان الأجدر أن يلتزم توينبي بالنهج الموضوعي بوصفه مؤرخًا ودارسًا للتاريخ وليس سياسيًا متدينًا، فهو الذي أقر وأكد على أهمية الإسلام من جهة، وعبقرية النبي محمد من جهة أخرى. كما أكد توينبي أن: الحضارة الإسلامية هي أحدى الحضارات المتميزة التي لعبت دورًا مهمًا في تاريخ البشرية. كان ذلك بعد أن هضمت وتمثلت المنجزات الفكرية والمادية للحضارات السابقة عليها، وعملت على صقلها وبلورتها وإغنائها، فطورتها وزادت عليها، وقدمت للحضارة الإنسانية مادة غنية عملت على دفع عملية التطور الفكري والمادي خطوات واسعة نحو الإرتقاء في معارج التقدم الحضاري.

ويعترف توينبي بأن الإسلام يتميز بالأفق الرحب، وسمو الأفكار، حيث يحث على إستعمال العقل والفكر، ويدعو إلى الإهتمام بالأمور العامة، والنظر إلى الكون دون الإقتصار على مادية المصالح الفردية. كما وأن الإسلام أوجد عوامل الوحدة في العقيدة والدين، وفي القانون ونظم الحياة. وهكذا أوجد الإسلام دولة عالمية تُعَبّر عن الوحدة السياسية للحضارة. ولقد برزت جليًا عوامل التوحيد وذلك في وجود دين وخلافة وقوانين وعاصمة واحدة تحضى بإحترام الناس.

وذهب توينبي إلى أبعد من ذلك، وأقر بأن الإسلام هو أكثر العقائد الدينية إتفاقًا مع المنطق، وأشدها دقًة في الإيمان بمبدأ الوحدانية. ورفض ما تطرق إليه بعض المؤرخين الغربيين بأن "القوة المادية" كانت العامل الحاسم في إنتشار الإسلام. إذ حسب رأي توينبي أن الشروط التي طالب بها المسلمين من الآخرين للإيمان بالدين الجديد لم تزد على تأدية عدد من الفرائض، ولم تكن تأديتها بالأمر الشاق. علاوة على أن البلاد المفتوحة لم تكن تخير بين الإسلام أو القتل، بل بين الإسلام ودفع الجزية. وأن الحضارة التي أنتشرت في شمال أفريقيا هي في الواقع من عمل الإسلام ودعاته العرب.

ويؤكد توينبي أن الحضارة العربية الإسلامية في أسبانيا قد حافظت على الفلسفة اليونانية من خلال "علماء أسبانيا المسلمون". إلا أن أعداؤهم المنتصرين عليهم قد أستغلوها لمنفعتهم. كما كانت حركة الترجمة في بغداد التي نقلت المؤلفات اليونانية عن السريانة، وكذلك نقل التراث العربي إلى بقية الأمم؛ مما يبرهن على وجود حركة فكرية كبيرة.

وبتشخيص تحفيزي ينبه توينبي العرب إلى المقومات التي يمتلكونها في تحقيق تقدمهم ورقيهم الحضاري، حيث يقول: إذا كان أبناء الحضارة العربية الإسلامية اليوم، لا يستغلون المقومات التي يمتلكونها لتحقيق الأهداف الواجب تحقيقها للنهوض بواقع أمتهم، والسير بها نحو معارج الرقي والتقدم الحضاريين، فهذا لا يعني أن المقومات غير موجودة، لأن عدم أستثمار المقومات لا يلغي وجودها، بل هي فقط تحتاج إلى من ينقلها من حيز الوجود بالقوة إلى حيز لوجود بالفعل.

أن توينبي وهو يدرس ويتمحص العالم العربي وما فيه من خيرات وإمكانيات هائلة لم تستثمر بعد بالشكل المطلوب لها، حيث كتب: لقد أضحى العالم العربي والإسلامي اليوم أكبر منتج للنفط، ويمتلك أكبر أحتياطي منه، كما أنه يتمتع بموقع جغرافي مهم يتوسط من خلاله قارات العالم القديم، ويشرف على بحار ومحيطات ويمتلك أهم الطُرق البرية والمضائق البحرية، وخصوصًا قناة السويس. ولكن إدارة وأستثمار المجتمعات العربية والإسلامية لهذه الإمكانيات ضعيفة، ولا تتناسب مع حجم إمكانياتها ومقدراتها، ولكن ذلك لا يعني أنها غير قادرة على الإستفادة من إمكانياتها في المستقبل، إلا أن المسألة مرهونة بالدرجة الأولى بيقظة أبناء الأمة ونهوضهم من جديد.

ربما "مشروع نيوم" الإستمثاري العالمي العملاق الذي تؤسسه المملكة العربية السعودية ويمتد إلى الأردن ومصر، ومستقبلًأ نحو بلدان عربية أخرى، قد يكون الجواب إلى ما كتبه توينبي.

المصدر: اندبندنت عربية