بيروت - لبنان

اخر الأخبار

أقلام عربية

29 تشرين الأول 2019 07:06ص لبنان الأزمة... ولبنان الجيش

حجم الخط
يلجأ بعض أهل الحُكْم إلى الجيش عندما تواجههم عواصف من الاحتجاج الشعبي على سياسات وإدارة لا تأخذ في الاعتبار المصلحة العامة. وفي لبنان الأحدث انتفاضاً كانت معظم الرئاسات ترى في الجيش خير رادع للاحتجاجات أو الانتفاضات... إنما في حال لبى طلب النجدة يأتيه من هذا الرئيس أو ذاك. وفي استمرار يتريث قائد الجيش عندما يطلب منه الرئيس الذي بدأ كرسيه يهتز بفعل مظاهرات وهتافات يكون مضمون كلماتها على درجة من الاستهانة بمقام رئيس الجمهورية، طالب تدخُّل الجيش لصد مفاعيل الحراك الشعبي عنه.
وفي الانتفاضة الراهنة التي تزداد ثباتاً للأسبوع الثالث والمتأثرة لجهة الاستفادة من عوائد صمود الانتفاضة المصرية، ثم الانتفاضة التونسية، فالانتفاضة السودانية المتزامنة مع الانتفاضة الجزائرية، طُلب من الجيش أن يفض اعتصامات وأن يزيل عوائق وضَعها المنتفضون بهدف إحداث المزيد من الضغط على أهل الحُكْم. لكن عكْس ما بدا في أكثر من مشهد، استحضر قائد الجيش أمثولة أول الجنرالات في المؤسسة العسكرية اللواء فؤاد شهاب؛ ذلك أنه عندما اشتدت وطأة اعتراض شعبي على أول رؤساء جمهورية لبنان المستقل بشارة الخوري وطلب مساندة الجيش له في وجه الإرادة الشعبية المعترِضة على تجديد رئاسته بتحفيز من مرجعيات سياسية ودينية كتلك التي تلقاها رئاسة العماد ميشال عون في أزمتها الراهنة، فإن الجنرال أوضح بمفردات وطنية ومتأدبة أن واجب الجيش هو درء الخطر عن الكيان وحماية الشعب من إيذاء خارجي، أما عندما تحدُث مناكفات ومنازلات فإن تدخُّل الشرطة هو تنفيذ لواجبها. رفْض في منتهى اللباقة لطلب الرئيس كي يتدخل الجيش. وعندما لم يلبِّ الجنرال فؤاد شهاب الطلب الرئاسي، فإن رئيس الجمهورية كلَّفه تشكيل حكومة طوارئ كتلك المطلوبة في ظل الأزمة الراهنة. وهنا يستوقفنا أنها أول حكومة مدنية - عسكرية تشكلت في لبنان المستقل، وأن رئيسها الجنرال شهاب (الماروني) اختار اثنيْن فقط معه (الأرثوذكسي باسيل طراد والسُني ناظم عكاري). وبقي طي المجهول لماذا اقتصرت الحكومة على رئيس احتفظ لنفسه بالوزارات السيادية والحساسة، إضافة إلى رئاسة الحكومة وأسند ما تبقَّى من الوزارات إلى تمثيل سني وآخر أرثوذكسي وعدم إسناد وزارة إلى شخصية شيعية وأُخرى إلى شخصية درزية من أجْل أن تكون خصوصية التعدد الطوائفي مكتملة.
ومثل هذه الصيغة تصلُح الآن علاجاً في مرحلة انتقالية، ومن دون أن تكون ظروف الرئيس الحالي ميشال عون ضاغطة على نحو ظروف الرئيس بشارة الخوري الذي ارتأى الإسراع في الاستقالة تحت وطأة «ثورة» ذلك الزمن وتسليم البلاد إلى مَن يدير شؤونها في انتظار أن يتسلم المنصب رئيس جديد كان كميل شمعون. بينما الحال تختلف؛ كون العماد ميشال عون شغل نصف المدة الرئاسية وما زال سقف مؤازريه عالياً، وقد لا تصل الحال به إلى ما وصلت إليه حال الرئيس بشارة الخوري الذي بعدما أعيت قدراته ضغوط انتفاضة المنتفضين أتبع تكليف قائد الجيش بكتاب استقالته من رئاسة الجمهورية نادماً أشد الندم على قبول إغواء الحاشية والمستفيدين والذين ارتبطت بشخوصهم صفة «الفروماجيست» الترجمة العربية لها «أكلة الجبنة». وهؤلاء ألحوا عليه من أجْل تجديد رئاسته من دون التبصر بالمحاذير.
ثمة وقائع وأمثلة كثيرة عن دور الجيش في الأزمات اللبنانية العاصفة، لكن تبقى واقعة طلب الرئيس بشارة الخوري من قائد الجيش التدخل ضد الناس، الأكثر شبهاً بما يتم تداوله هذه الأيام حول طلب مماثل من جانب الرئيس ميشال عون لم يلق التنفيذ من جانب قائد الجيش جوزف عون، في حين الانتفاضة تأخذ إصراراً وتمدداً ملامح توحي بأن حكومة كتلك التي شكَّلها الجنرال فؤاد شهاب إنما بتوليفة جديدة قد تكون آتية وتمهد للبنان المستقر فتبدأ مرحلة تنقية الفساد المالي والإفساد الإداري والمجتمعي وبينهما الكساد الثقافي... وبعد هذا النهوض الاحتجاجي كل ما هو مستبعَد يصبح محتمل الحدوث.
ويبقى، وفي حين لبنان يعيش هذه الظروف البالغة التعقيد التي تحتاج إلى رجال دولة عقلاء وعلى استعداد لتقديم مصلحة الوطن على الذات، نفتقد حضور رجل الدولة الاستثنائي الرئيس الدكتور سليم الحص الذي يعيش ظروفاً صحية دقيقة بعض الشيء، ونستحضر من الزمن الذي كان والعماد ميشال عون فيه رمزَي مرحلة بالغة الدقة (1989) عبارة له أشبه بالإشارة يفهمها مَن كان لبيباً، وهي: «إذا كنتُ أنا والعماد عون قد أصبحْنا وجهيْن لمشكلة واحدة تتجلى في حال الانقسام الخطير، فنحن كلانا يجب ألا يتردد في إخلاء السبيل أمام أي حل يعيد الوحدة لهذا الوطن إذا ما لاحت آفاق واعدة لذلك». عسى ولعل يستحضر الرئيس عون من أرشيف الذي مضى الكثير من العبارات التي قد تطفئ نار غضبه على الناس وغضب الناس على سلوكيات بعض مَن حوله.
 
 

المصدر: الشرق الاوسط