«عنصر المفاجأة» كثيراُ ما كان الشرارة الأولى التي أسقطت الثورات. والثورة الفرنسية بدأت ليلة خرج إلى الشارع من Hotel de Ville مجموعة شبان هتف ضد لويس السادس عشر وزوجته ماري انطوانيت التي يوم اختفى الرغيف من باريس نصحت الشعب أن يستبدل الخبز بالبسكويت!! وما لبث الجمع الصغير خلال ساعات الفجر الأولى أن التحق به باعة الحليب وعمال البلدية وموظفون وعمال ثم آلاف العاطلين عن العمل وفقراء وجياع أطلق أحدهم فجأة الصرخة الشهيرة التي شقت سماء باريس في ليل ١٤ تموز ١٧٨٩: هيا.. كلنا الى «الباستيل»، السجن الرهيب التي تسلقت جماهير الغضب أسواره العالية وأفرجت من زنزاناته المظلمة عن ثورة مطالب رغيف وحليب ودفء وضرائب ومكوس توسعت بـ «عنصر مفاجأة» الى كافة الضواحي والأرياف، تدفع بها الى الأمام حكومات فرنسية متتالية توقفت عن الدفع، وعملة وطنية انهارت قوتها الشرائية، ومن أصل ٢٦ مليون عدد السكان عشية الثورة، مليون فقط خارج المعاناة، و٢5 مليونا على شفير الفقر والجوع والمرض. وكان رد هؤلاء على الحكومة وعلى النظام، لا الانتخابات ولا المفاوضات ولا التسويات، بل الثورة وبالسلاح و... بالمقصلة!
وفي لبنان كان «عنصر المفاجأة» ذات يوم حراك لبناني ضد ضريبة صغرى فجّرت انتفاضة كبرى في العاصمة وتوسّعت الى كل لبنان في وجه نظام الفقر والجوع والبطالة والهدر والنهب والفساد والاهمال الذي أفسح في المجال لتفجير مروّع لم يستهدف فقط رئتها البحرية، وإنما أيضا قلبها الاقتصادي بتعطيل مصادر العيش في تدمير اهراءات قمح وغذاء وإصابة عشرات المئات في الجوار من مؤسسات انتاج ومال ومصارف وتأمين وتجارة ونقل وشحن وخدمات، وبما يعزل لبنان عن العالم.
ورغم عديد الاختلافات في الظروف والأسباب والنتائج بين ثورة فرنسا وانتفاضة لبنان، يبقى الدرس الأهم للسياسيين اللبنانيين من الثورة الفرنسية «اللحظة الفجائية». ففي تلك الليلة «التموزية» الفرنسية الحارة التي سبقت بأقل من ٢٤ ساعة لحظة الثورة، اقتصر التقرير الأمني اليومي لوزير الداخلية على عبارة واحدة «كل شيء هاديء في باريس»! ودون أن يدري الوزير ان «الهدوء» طالما سبق العاصفة وفي ثورة «لا تنذر ولا تبقي ولا تذر»!
والدرس الأكبر في حال لبنان ان الحواجز الطائفية والمذهبية التي تحمي وتحصن أهل الحكم ليست أعلى من أسوار «الباستيل» بحيث تمنع عنهم أي «مفاجأة» في أي لحظة تتحوّل خلالها الانتفاضة الى ثورة. والانفجار المروّع الذي هزّ كل لبنان وقضى بالاهمال والاسترخاء و«الاستلشاق» والتكبّر والمكابرة - وربما المؤامرة - على آلاف الضحايا والجرحى والمفقودين والمشردين، ليس هو - ولا ما قبله من «انفجارات» معيشية واجتماعية - التحذير أو الانذار. فإن «عنصر المفاجأة» عندما يحلّ موعده هو السباق ولا يترك فرصة لأي تحوّط أو استدراك!