أدت الأوضاع المالية المستجدة الى فك الترابط المصرفي بين سوريا ولبنان، حيث رجال الأعمال السوريون يحتفظون بودائع في المصارف اللبنانية (تصل في بعض التقديرات الى ما يوازي 20 مليار دولار) بغرض تسهيل استيراداتهم من الخارج عبر دفع قيمتها من هذه الودائع عبر المنظومة المصرفية اللبنانية.
إلا أن تقنين السحوبات بالدولار من مصارف لبنان والتي انخفضت لدى بعض المصارف الى 100 دولار اسبوعيا، أدى الى وقف هذه المزايا التي توفرها المصارف اللبنانية، ما يدفع رجال الأعمال السوريين للجوء الى السوق الموازية في لبنان للحصول على العملة الصعبة ولو بأسعار دولار أعلى، الأمر الذي يساهم مع الطلب اللبناني المتزايد على الدولار، في المزيد من رفع سعره في السوق الموازية.
وهذا ما يحد من امكانية سيطرة المصرف المركزي على سعر الدولار في السوق، ما دامت عوامل ارتفاع سعره، مرتبطة الى حد بعيد بالطلب المحلي (والسوري) على الدولار في أسواق لبنان.
والدليل أنه رغم توصية حاكم مصرف لبنان للصرافين بحد أقصى للدولار بسعر 2000 ليرة، فان الصرافين لم يلتزموا بالتوصية وارتفع السعر مباشرة بعدها الى 2280 ليرة. كما ان الانخفاض الذي كان متوقعاً إثر تأليف الحكومة الجديدة، لم يتحقق. بل على العكس جاءت النتائج أحياناً عكسية كدليل اضافي على أن سعر الدولار له أسباب ومعطيات من النوع غير المألوف، وبدليل اعلان حاكم مصرف لبنان ذات يوم عندما سئل عن توقعاته للسعر أجاب بشفافية وواقعية: من يدري؟!
وهكذا مع الاشارة الى ان شح الدولار في لبنان كما في سوريا، لرجال الأعمال السوريين، والضغط الذي أحدثه هذا الوضع على سعر الليرة السورية التي ارتفعت أخيراً مقابل الدولار الى أكثر من 1200 ليرة سورية، دفع السلطات السورية الى التشدد جدا في تطبيق مفعول المرسوم التشريعي السوري 54 للعام 2013 الذي يمنع كلياً التعامل بأي عملة غير العملة السورية، «وتحت طائلة الحبس 7 سنوات والغرامة بمثلي قيمة المدفوعات أو المبالغ المتعامل بها أو المسددة أو الخدمات أو السلع المعروضة، مع مصادرة المدفوعات أو المبالغ المتعامل بها أو المعادن الثمينة لصالح المصرف المركزي السوري». كما في نص البيان المصرفي السوري الرسمي.
«اعادة البناء»
في هذا الوقت وأمام الفرص المتوافرة لعمليات اعادة البناء في سوريا والتي أشار اليها الرئيس الحريري في مؤتمر بروكسل، بدأت بعض شركات المقاولات اللبنانية تدرس حجم وجدوى هذه الفرص سواء عبر الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو من حصول سوريا على قروض ليس من الواضح حتى الآن نوعها وحجمها. وأما القطاعات التي يفترض ان تتوجه اليها عملية إعادة البناء، ففي طليعتها الكهرباء والماء والطرقات وسكك الحديد والمطارات والمصانع والمساكن.
وأما بشأن مدى امكانية القطاع المصرفي اللبناني في الاستفادة من هذه الفرص، فان خبراء مصرفيين يستبعدون أن تدخل مصارف لبنان على خط اعادة البناء في سوريا، لأسباب عدة منها: أولا الأزمة المصرفية الاقتصادية اللبنانية المستجدة، اضافة الى ان المشاريع المتعلقة باعادة البناء تحتاج الى قروض واستثمارات بعيدة المدى هي من اختصاص «مصارف الأعمال» الكبرى، والدليل أنه حتى عندما كان هناك في لبنان، كان هناك تحفظات لدى مصرف لبنان ازدادت أخيراً مع الأزمة المصرفية، بأن لا تدخل المصارف اللبنانية في هذا المجال، وأن تكون هذه العمليات مشتركة بين القطاعين العام والخاص، ولكن دون أن يكون للمصارف اللبنانية دور توسعي في هذا الاتجاه، رغم وجود 7 مصارف لبنانية عاملة في سوريا.
فإذا كانت هذه هي الحال داخل لبنان، من الطبيعي أن لا يكون لمشاريع البنية التحتية السورية الأفضلية في الاقتراض على حساب البنية التحتية اللبنانية. وفي هذه الحال قد يكون الدور اللبناني في عملية اعادة البناء السورية، مقتصرا على الشركات اللبنانية ذات الاختصاص، سواء من خلال قوتها الذاتية أو من خلال عقد هندسات مالية استثمارية مع شركات سورية ومحلية، أو عبر حوافز من الدولة السورية والمصرف المركزي السوري، الأمر الذي هو في الوضع السوري الآن.. في غاية الصعوبة.
ويبقى أخيرا أن أي صيغ للتعامل داخل سوريا تحتاج الى اعادة النظر في قوانين الاستثمار السورية الحالية والتي يفترض أن تشمل ضمانات أوسع سواء للمستثمرين اللبنانيين أو العرب عموما أم الأجانب. وأما لجهة جنسية الشركات التي قد تحظى بالحصص الكبرى في عملية اعادة البناء سواء للقطاع العام أو القطاع الخاص، فهناك الى جانب الشركات اللبنانية والخليجية، مجال أكبر للشركات الروسية والصينية لا سيما في المشاريع الكبرى التي تحتاج الى اختصاصات عالية وأموال وفيرة.
أما بالنسبة للشركات الأميركية والأوروبية فان المجالات أمامها متوقفة على طبيعة النظام السياسي الذي قد تستقر عليه سوريا، وهل سيكون هناك مشاركات اقتصادية في اطار تسويات إقليمية ودولية، لتبقى أخيرا كل الافتراضات متعلقة على النتائج السياسية والأمنية وعلى مدى قدرة الاقتصاد السوري على استيعاب المتغيرات.
وبانتظار ما ستنجلي اليه الأمور، يبقى الاستقرار في سوريا هو الأساس. ولكن كيف سيكون هذا الاستقرار؟ ومتى؟؟. هنا «بيت القصيد»!