مسودة «الكابيتال كونترول» تسجل انحرافا عن ضفاف الاقتصاد الحر الذي نص عليه الدستور، من حيث القيود والحدود على حركة الودائع.
وتداعياتها لا تقتصر فقط على الثقة العامة بقطاع حوّل لبنان بحيويته وتقنياته وحداثته، الى «مصرف العرب»، ومن عاصمته الى مركز المال والأعمال في الشرق وصلة الوصل بين الشرق والغرب، بل تطال في تأثيراتها السلبية طبيعة عمل المصارف في لبنان ودورها في الاقتصاد، لا سيما مع التراجع المتواصل للدفق النقدي سواء في الودائع أو التحويلات الاغترابية أو في المساعدات والتسهيلات العربية وغير العربية، ما أدّى الى شلل حركة التسليف والتوظيف.
وهو دور مركزي للقطاع المصرفي عطلت الدولة جزءاً كبيراً منه حتى قبل عشرات السنين الماضية من الأزمة المصرفية الراهنة، عندما استهلكت من الودائع الحصة الأكبر من التسليفات على حساب القطاع الخاص، أو بما يعرف في اللغة الاقتصادية الدارجة بـ Crowding Out وباللغة العادية «قوم لأقعد مكانك»، وذلك بالاستحواذ على حوالي ٨٠ مليار دولار (سندات خزينة بالليرة، و«يوروبوندز» بالدولار) في تسليفات للقطاع العام مقابل أقل من ٦٠ مليار دولار تسليفات للقطاع الخاص، وفي معادلة ليست عادلة بين كتلة هشة ضخمة اسمها « الدولة «ومئات آلاف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكّل ٩٠% من حجم الاقتصاد، تقف الآن على شفير الانهيار مع آلاف المؤسسات الكبرى التي تهتز قلاعها وسط محنة اقتصادية لم يسبق لها مثيل منذ أيام المتصرفية وصولا الى الأزمة المصرفية الحالية.
وبما بات يقتضي مراجعة وإعادة نظر في تركيبة ومنهجية العمل المصرفي في لبنان. أولا لجهة ضرورة زيادة الرسملة التي اقترحها حاكم مصرف لبنان خلال عامين بـ 4 مليارات دولار، تحتاج إلى زيادتها ثلاثة أضعاف هذا الرقم خلال فترة ثلاثة أعوام، عبر ضخ أموال إضافية Fresh Money من قبل المساهمين الحاليين أو مساهمين إضافيين، أو حتى إذا اقتضى الأمر.
من خلال اقناع كبار المودعين بتحويل ما بين ٢٠ الى ٢٥% من ودائعهم الى أسهم «أفضلية» مميّزة في مصارف أكبر تولد من اندماج مصارف أصغر تعجز في وضعها الحاضر عن التآلف مع متطلبات المرحلة الاستثنائية الحالية، وبحيث يتوافر لدى المصارف الكبرى المستجدّة برساميلها الإضافية، فوائض جديدة تمكنها من تسليف المؤسسات على اختلاف أحجامها لا سيما المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي أثبتت الدراسات انها الأساس في بنية الاقتصاد، والتي كانت ترعاها زمان الحكم العثماني «بيوتات مصرفية» عائلية محلية بسلفات الآجال القصيرة والمتوسطة، فيما كانت لمشاريع الكبرى الرائدة من اختصاص فروع المصارف الأجنبية لا سيما منها المتخصصة بتسليف الاقتصاد الانتاجي أيام الانتداب الفرنسي وورثها بعد الاستقلال «مصرف التسليف الزراعي والصناعي» الذي كان تجربة رائدة في بداياتها متعثرة في نهاياتها.
وكانت قروضه للزراعة والصناعة تصل أحيانا الى مدى ٨ سنوات للمدى المتوسط وحتى ١٦ عاما للمدى البعيد، وذلك قبل أن تجهز عليه وعلى منظومة «انترا» من بعده العقلية المصرفية الريعية التي احتكرت التمويل مستفيدة من غياب بورصة مالية فاعلة هي قوة التمويل الرئيسية في الدول المتقدمة، والقوة المساندة في العديد من الدول العربية على غرار البورصات السعودية والمصرية والكويتية والأردنية والمغربية، فيما التركيبة العائلية في لبنان ما زالت تفضّل الابقاء على الملكية شبه الكاملة أو حتى الكاملة لأسهم الشركات في يد الأقرباء والمقرّبين، وبدليل الحجم الضئيل في القيمة وعدد العمليات في البورصة اللبنانية والعدد المحدود للشركات المدرجة فيها التي لا تتعدّى الـ١٣ شركة من بضعة مصارف وشركة عقارية وشركة شبه عقارية، لا تصل الرسملة فيها أحيانا الى أكثر من ٧ ملايين دولار في الأسبوع مقابل ٢١ مليون دولار لبورصة الأردن على سبيل المثال.