هناك من يستغرب كيف حصل انه في ظل حكومة «تكنوقراط» في لبنان ضمّت هذا العدد الكبير من الاختصاصيين وأخذت على عاتقها مهمة الإنقاذ وصّلت الأوضاع الاقتصادية والمالية والمصرفية والنقدية والاجتماعية الى أدنى درك أسفل لم يشهد لبنان مثيلا له منذ لبنان الصغير والمتصرفية والقائمقيتين مرورا بلبنان الكبير وصولا الى جمهورية الاستقلال وحتى اليوم!
وبالمقابل هناك ممن لم يكن لديهم أساسا أي أمل من أي حكومة «تكنوقراط» عملا بمقولة كليمنصو الشهيرة «ان الحرب مسألة خطيرة لا يجوز تركها للعسكريين» والتي يمكن القياس عليها بأن الاقتصاد أيضا «مسألة خطيرة لا يجوز تركه للاقتصاديين». أو بالمقولة المصرية الشهيرة «ان العلم بالرأس مش بالكرّاس» ( في الرأس والتفكير وليس في الكتاب والتنظير). ولو أن هناك بالمقابل من يعتقد انه بقدر الحاجة الى التجربة والخبرة لا بد من معرفة علمية ومنهجية، كما في مقولة لينين: «لا ثورة بلا نظرية ثورية» والتي تعاكسها مقولة «غوتة» بأن «النظرية رمادية وأما شجرة الحياة فخضراء». فما أكثر النظريات التي لها شكل المواد المعلبة في عموميات قد تصلح لبلد دون آخر ولظرف دون آخر وتطبيقها دون اعتبار المكان والزمان قد يجلب الكوارث والفواجع. والدليل انه برغم وجود كم كبير من «علماء الاقتصاد» في العالم العربي لم يتمكن هؤلاء من إعطاء «وصفات علمية اقتصادية» يمكن بها معالجة (ولو بالحد الأدنى) مشاكل الفقر والبطالة والأميّة التي تعاني منها المجتمعات العربية.
نظريات اقتصادية أم منافع مالية؟!
وبعض أسباب هذا الواقع الذي لا يقتصر على العالم العربي، أوردها وزير المال ونائب رئيس وزراء بولندا السابق «جيجو كوودكو» في كتاب تضمن أسرارا خفيّة عن لعبة الأرقام التي يختارها الاقتصاديون بعناية واستنسابية في خدمة أهداف محددة، أو الاحصاءات التي يلوي ذراعها المتخصصون من ذوي المنافع الخاصة ممن يدعون خبرة ومعرفة في العلوم الاقتصادية يوحون من خلالها بأن «الاقتصاد» لم حقيقي مثل الجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء، مع أن في هذا «العلم» الكثير من المعادلات النسبية التي يحركها البعض كما البندقية التي يمكن نقلها من موقع الى آخر يمينا أو يسارا والى الوسط حسب رياح المنافع المالية أو السياسية، وتحت شعارات «علمية» و«أكاديمية»!
ومن الآراء المهمة عن تخبّط الكثيرين من «التكنوقراط» في سيناريوهاتهم وخياراتهم ما كتبه الاقتصادي Noah Smith بأن الاقتصاد الكلي The Macro Economics موضوع عسير الفهم، لدرجة ان خبراء الاقتصاد لا يعرفون سوى القليل عن كيفية سير الاقتصاد، وانه في الوقت الذي ينبغي أن ننتبه الى حدس هؤلاء الخبراء بشأن أمور مثل الانفاق الحكومي والتضخم والبطالة، ينبغي أن نضع في أذهاننا في الوقت نفسه ان تنظيراتهم أبعد ما تكون عن القول الفصل في ما هو أوسع وأعمق بكثير من الحجم القليل الذي اكتسبوه من معارف عن «الاقتصاد». وأمامنا في هذا السياق مقولتان إحداهما لأحد أشهر اقتصاديي العصر الحديث John Maynard Keynes بأن على رجل الاقتصاد أن يعرف كفاية من شؤون السياسة والفلسفة والرياضيات وعلم النفس والتاريخ والجغرافيا والبيئة وأن يكون لديه القدرة على استخلاص الخاص من العام والعام من الخاص وأن يتمتع برؤية ثاقبة لاحتمالات المدى القريب والبعيد وأن يكون له فوق ذلك كله بعض الحظ كي تصح توقعاته كاقتصادي حصل على فرصة كافية من صوابية التوقعات. وأما المقولة الثانية فهي ما خاطبت به الملكة اليزابيت جموع الاقتصاديين الذين شاركوها حفل افتتاح المبنى الجديد لبنك انكلترا المركزي: «لماذا وأنتم على دراية واختصاص بسير الاقتصاد لم يتوقع أحد منكم الأزمة المالية الراهنة» (في إشارة من الملكة لأزمة ٢٠٠٧ - ٢٠٠٨ المالية العالمية).