فيما الوعد بإعادة جزء من ودائع الدولار يدور في حال من التخبّط في حلقة مفرغة بين قرار حاكم مصرف لبنان واعتراض المصارف على القرار الذي يبدو ان مصيره سيكون مثل مصير قرار مجلس الشورى والتحقيق الجنائي والكابيتال كونترول، وفيما «البشائر» على رفع الدعم تطلّ على المواطن المنهار قبل رفع الدعم، فكيف في ما بعده؟ يصل ارتفاع سعر صفيحة البنزين الى معدلات قياسية تكشف كيف «تلتهم» الدولة الفوارق بين أسعار البنزين المحلية والأسعار العالمية، كما يكشف في الوقت نفسه كيف ان الدولة مسحت بمادة البنزين توقيعها على تعهدين: الأول تجاه المواطن اللبناني، والثاني تجاه المجتع الدولي.
ففيما يبلغ السعر العالمي لبرميل النفط الآن ٦٨ دولارا يبلغ سعر صفيحة البنزين ٤٢ ألف ليرة. بينما عندما بلغ سعر برميل النفط قبل أكثر من ١٠ سنوات ١٤٩ دولارا، بالكاد بلغ يومها سعر صفيحة البنزين ما هو عليه الآن!! وهذا الفارق الكبير بنسبة ٤٦% بين سعر برميل النفط الآن وسعره قبل أكثر من ١٠ سنوات! دليل على ان الدولة تأكل من زاد المواطن وتنقض في الوقت نفسه ما تعهدت به بأن أسعار البنزين المحلية ستلتزم دائما الأسعار العالمية، بمثل ما نقضت أيضا ما تعهدت به للدول المانحة في مؤتمر باريس٣ بأن يكون رفع الدعم عن البنزين بغرض خفض عجز الموازنة العامة وبأن السعر سيكون حرا لا يخضع إلا لعاملي العرض والطلب في الأسواق العالمية. فكانت النتيجة انه لم ينخفض عجز الموازنات ولا كان سعر البنزين حرا بل «التهمت» الدولة فوارق الأسعار مثلما «التهمت» كل وعودها للدول المانحة إصلاحات مالية وإدارية وهيكلية وخفض الدين العام ومكافحة الفساد ووقف الرشوات والمحسوبيات، بما سيترك آثارا معنوية سلبية على أي مباحثات مفترضة مع الدول المانحة والصناديق الدولية والعربية ويقفل الطريق أمام أي قروض أو مساعدات تختفي في عتمة ظلام الأوضاع الحاضرة.
وخلال هذا الوقت الضائع...
يأتي قرار رفع الدعم عن البنزين وعن باقي المواد والسلع المعيشية والضرورية إنطلاقا من ان استمرار الدعم يستفيد منه الأغنياء والميسورون أكثر من الفقراء وذوي الدخل المحدود، وكأنما مشكلة إستفادة الأغنياء من الدعم تلغي حاجة الفقراء إليه، في حين ان الدول التي لديها حكمة وخبرة الإدارة والتخطيط، حلّت هذه المشكلة بالإبقاء على الدعم رغم إستفادة الأغنياء منه ورفعت عليهم بالمقابل نسبة معينة من الضرائب التصاعدية أو زادت الرسوم الجمركية على ما يستهلكونه من كماليات، فاستعادت من الأغنياء والميسورين باليسرى ما يستفيدونه من الدعم باليمنى. وأما في لبنان فبدل ابتكار الحلول ترتجل الدولة القرارات دون إدارة ولا تخطيط وغالبا بلا خبرة سوى في فنون «الاقتناص» من المال العام وتضييق فرص العيش على الفقراء والمحرومين، وتشعل في الوقت نفسه بوقف الدعم عن البنزين وعن باقي سلع العيش والحياة، نيران الفوضى والاضطرابات الاجتماعية والأمنية حتى بلغ الأمر حد تصنيف أزمة لبنان من قبل البنك الدولي بانها احدى الأزمات النادرة المثيل في التاريخ الاقتصادي العالمي الحديث، واصفا إياها بانها في المراتب الثلاث الدنيا في العالم من أصل ١٠ أزمات عالمية عرفت بهذه الصفات منذ القرن التاسع عشر. وهو تقرير لم يذكر ان أوضاع لبنان إذا استمرت على ما هي عليه الآن من الانهيار وصولا الى القعر، قد تحتل عندها «المرتبة الاولى» بين كوارث القرن التاسع عشر!
ألم يسبق رئيس الجمهورية ما ورد في تقرير البنك الدولي عندما أعلن اننا نسير الى جهنم؟!