بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 تشرين الأول 2017 12:05ص 23 عاماً على غيابه.. في ذكرى أيقونة الصحافة العربية محمّد بديع سربيه إشتقنا إلى قلمك... أيها المعلِّم

حجم الخط
خريف عام 1994 أمتطى شهيد الصحافة النبيل محمّد بديع سربيه جواده... وغاب في المدى!..
فوق القوافي والافتتاحيات، والمقالات عبر مدرسته «كل شيء» بعدما كان شامخاً كالطود وصلباً كالصوان وقلب طفل! (وتلك حكاية أخرى).
وإذا كان للأمم الحيّة أن تزدهي بنوابغها وتتباهى بأدبائها وصحافييها وكتابها فقد حق لنا نحن تلامذة المعلم الراحل محمّد بديع سربيه ان نضع استاذنا في مقدمة مفاخرنا في هذا العصر.
محمّد بديع سربيه مدرسة إنسانية فريدة. الإنساني اللبناني والعربي.
لقد تخطى فقيد الصحافة بأدبه وصناعة الخبر والمقال، والافتتاحية حدود جغرافية وطنه خصوصاً في الإنسان العربي الباحث عن العدالة، هو محور افتتاحياته.
يوم أشرقت شمس «كل شيء» على الدنيا في غرفتها البعيدة... لتعانق (السماء الزرقاء) فتخبئ سراً للقمر قال محمّد بديع سربيه لرفيقة عمره: «الأعمال العظيمة تبدأ دائماً بالحلم...».
أضاف: والحياة تتغير بالحلم... لكن المهم ان نمتلك القدرة على تحقيق هذه الأحلام، الا نكتفي بالاختفاء من الواقع داخل «عباءة الاحلام» نرى الدنيا بنصف عين... بينما نرى الأحلام بعيوننا ومشاعرنا»؟..
وكانت «كل شيء» مجرّد حلم جميل، حلم بأن نفتح صفحاتها ونقلب فيها.
بدأ المعلم من (منطقة الحلم) وغزّل هذا الحلم بهدوء شديد، حتى يستطيع التحليق الدائم في فضاء بلا حدود.
بدأ حلمه يتحقق... وبدأت الأفكار «السربية» تتحوّل إلى كلمات وصور ملونة وحكايات من واقع (الشارع العربي) وبدأت «كل شيء» تصافح القارئ بحرارة لأنها ببساطة تقف معه على نفس النهج... وكنا نحن معشر طلابه نحلم ذات الحلم، لندخل معاً عالماً جميلاً رائعاً بلا حدود.
يوم عملت في «الموعد» كمتدرب في الصحافة (في بناية الشرتوني) خلف سينما غومون بالاس...
كنت دائماً أسمع نبرة صوته الهادئة... أدبه الجم... تحليله الثاقب.. ورؤيته واستشرافه للمستقبل... يذكرك دائماً بعميد «اللــــــواء عبد الغني سلام» الذي ينتمي إلى ذات (المدرسة الصحافية)، فالنهج والأسلوب واحد... مفتون بتجربة (الثورة الناصرية) معارض للسلام مع إسرائيل... متحيز للعدالة الاجتماعية، ومناصر لأية تجربة إسلامية ترفع راية الإسلام.
هو مدرسة صحفية كانت تسعى على قدمين... وخبرة مهنية نادرة تمتد لأكثر من نصف قرن.
والذين لا يعرفون محمّد بديع سربيه الإنسان...
فهو محدث لبق، خفيف الظل، وهو أب بكل معاني الكلمة، مع الضعيف حتى يقوى، ومع الصغير حتى يكبر...
محمّد بديع سربيه...
عاشق الورد.. والياسمين غامض مثل الحياة... وواضح كالموت.
حاولت مع القلم... مرات ومرات أن يلعب بالكلمات، لست على خلاف... مع «غناء القلم» كما يريد، وأؤمن بما يؤمن به... ولي تجارب معه حين حاولت أن أضغط عليه..
نعم...
لقد أشتقت إلى عناق قلم الفارس البديع. ولو ان الفارس استراح من هدير المطابع وعطرها...
استراح...
وسيان أن أكتب رثاء المعلم البديع... أو أكتب رثائي.. قد تساوى الأموات بالاحياء في هذا الزمن الرديء؟..
كلما أنكسفت الشمس ينطفئ نجم لامع.
ويسقط شهاب ساطع من شهب الحرية والكرامة، والعطاء السخي...
والوطنية الحقة..
يوم لحق المعلم النبيل محمّد بديع سربيه بكوكبة الفرسان التي سبقته كالنقيب عفيف الطيبي، والنقيب رياض طه، لحق بالكوكبة وهو شهر بلده مصدر الحب؟! عاد طعمة للحقد، والنار، والشقاق!..
لله تلك القيثارة من العصامية، والخلق العف والشمائل الرضية وتلك الروح الشفافة من سماحة النفس وسجاحة الطبع وجمال الروح..
بديع تملأ الأنهار وحزن يبكي الجبال، ودعت بيروت عام 1994 الصحافي العملاق.
عشق كل ركن في محبوبته «كل شيء» و«الموعد» ارتبط بهما وارتبطتا به.
أحبه الجميع من كل جيله... واحتضن كل من جاء سائلاً خبراته من جيل الشباب، وظل على ألسنة كل عشاق «صاحبة الجلالة».
ثلاثة وعشرون عاماً مرّت على رحيله... وما زال البديع يمثل علامة فارقة في الحياة السياسية والإعلامية والاجتماعية..
فقد كان رائداً حقيقياً من رواد الصحافة وعموداً من أعمدة الكلمة، ومدافعاً عن حرية التعبير ونهضة الوطن..
يظل تخليد رموز الوطن أحد المهام الوطنية لا يضطلع بها إلا عشاق الأرض والناس من الذين تجري في عروقهم دماء العروبة والاسلام والقدرة على إيقاظ الذاكرة التي تكاد تنمحي تحت «معاول الهدم لرموزنا الصحافية.
أستاذي الغالي..
ذكراك قوة لي «ولكل شيء على تحمل الآم الوطن» .
رفيقة العمر نادية وندى، منى، ورنده ورانية بخير، وكلهن الآن يد واحدة لرعاية ما تركت من احباء ومبادئ. يحوطهن الحب الذي زرعته في القلوب.
يا مواكب الشمس..
ويا ضفاف الحرية... آبك البديع فلطالما بكاك بالدم والروح والمداد..
ويا أرز لبنان... لقد سقطت من رحابك أرزة شامخة عام 1994.
ويا أيها الشاعر العربي العظيم سانتظر طويلاً العزاء ببيتك الرائع في فقدان بديع.
ستألف فقدان الذي قد فقدته كإلفك وجدان الذي أنت واجد؟ وستبقى يا أستاذي... نافذة يدخل منها الفجر.