كرجل بأرجل متشعبة، ينزل لبنان إلى ساحة الإنتخابات الرئاسية. كرجل بجهات متعددة، يتجه إلى الإستحقاق القادم، في الوقت الذي يسبق خروج الرئيس، من قصر بعبدا، قصر الجمهورية الضائعة. كرجل بأنفاس متعددة: صافية، رائقة، ملوثة، مطعّمة، مهجّنة، ملونة، أنفاس كريهة، أنفاس عطرة، أنفاس تشخر، تتقطع، قبل الدحرجة إلى الأرض، والسقوط الثقيل، السقوط القتيل.
كرجل بأرجل متشعبة، يقف لبنان اليوم أمام المرآة، قبل الخروج المريع، من مربع الرئاسة في بعبدا، من مربعات القصر، من مربعات الأجنحة التابعة له، تلك التي تستوطن هذا الزاروب، أو ذاك، منذ ست سنوات، أو أقل بشهرين، منذ عقد، أو عقدين، أو عدة عقود. بأرجل متشعبة، صالحة للذهاب في أي إتجاه، بحثا عن الكرسي المفقود في بعبدا، بحثا عن الوطن المحلول، في قصيدة نثر.
يقف لبنان بأرجله المتشعبة أمام المرآة كأعظم ما يكون الرجال، على ظهره وفضة، فيها نبل، وبيده لواء.. يتقدم، مثل دائرة، تصنع نفسها في بركة آسنة من الماء، تدور حول نفسها، تستيقظ فجأة على حالها. تجد نفسها في مسيل ذاهب إلى البحر، بعد أن يعرج على الحصوات، وعلى تلال الرمال، وعلى جذور الشجر، يحملها على عاتقه، ويرميها مع الأرواث والنفايات في مصبه. ثم يذهب مثل ريح جيفة في الهواء، لا تلوي على أي شيء.
كائن خرافي، سليل الأساطير القديمة، هذا الجبل الذي أسمه لبنان، وريث التواريخ كلها، وريث الشعوب كلها، وريث البحار والمحيطات، والصحارى القاطنات خلفه، مثل ناطحات السحاب، لا يطالها الناظر، يرى فيها وهمه، وريث الكتب كلها، والدعوات، والطوائف، والمذاهب وعجلاتها المتشعبة، خلّفته الإمبراطوريات خلفها، مثل طفل سقط من قماطة إمرأة، تعثر في بطنها، فسقط بأرجل متشعبة في الطريق.
رجل كأعظم ما يكون عليه الرجال، بأرجل متشعبة، يقف اليوم هذا البلد العظيم، هذا الجبل العظيم، هذا الوطن المنكود الحظ، أمام تاريخه. يجمّل وجهه، بمساحيق الشبهات، كما تفعل الغانية الشمطاء العجوز. كما تفعل فتاة العفة والكبرياء. يتأبى على العابرين، على الرامقين، على الناظرين.. يدعوهم، لإعادة النظر به كرّتين.
شق الكاهن هو.. بعين واحدة حولاء، وبيد واحدة كسيحة، وبمنخر واحد مزكوم، وبقدم واحدة عرجاء، وبثوب أسود مرقع، من ثياب رهبان الهندوس، ونسّاك الصوفية في كل مكان. شق الكاهن هو، بأرجل متشعبة، هذا هو لبنان. يستيقظ مثل طفل المغارة، كل شمس، في وادي قنوبين، وفي أفقا، وفي جعيتا، وفي جزين.. ثم ينظر في المرآة، قبل إفتتاح صف المدرسة في تشرين. طفل المعجزة هو، لا يهاب الطرقات الكثيرة، الطرقات المتعرجة، الطرقات الحافية.. لا يخاف وعورة الطرقات، ولا السير في ظلمات الطريق. يحمل على كتفه جعبته. يريد أن يتنفس الشهرين، يريد أن يقطع الوقت بسكين ناظريه، كلما نظر في الحديد، فلّ الحديد.
بأرجل متشعبة يخرج ساكن القصر، يستقدم واحدة ويستأجل أخرى، يحرك الكون بناظريه، يجوب بين الأروقة، يمسح الجدران بلعابه، سال منه عن غير قصد، يزرع صوره في كل النوافذ، يغرس شبحه في الباب، يرمي ظله على القصر المسحور، منذ آلاف السنين، ثم يسقط مثل أخطبوط من دخان حريق. يسأل نفسه سلفة زمنية، يأخذ صورة سيلفي مع ظله، ثم ينثر شعره، مثل قصيدة شاعر حديث، ضاعت كلماتها، كلما كان يخطو، كلما كان يحصي أخطاءه، كلما كان يخنق الوقت أنفاسه، كلما كان يصنع القصر بعينيه قبل الذبول القتيل.
جرثومة الوقت، كانت تنخر بدن الرجل ذي الأرجل المتشعبة، الذي أسمه لبنان. داهمه الوقت بنابه، عضّه، حتى جعله يفك السحر عنه، ثم رماه، في ساحات العالم، يسأل من أين الطريق.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية