ترصد اللوحات التشكيلية الحركة العمرانية في الكثير من أعمال المستشرقين الفنية، لتصبح كتراث عمراني راسخ في الأذهان بانتقاله من جيل الى جيل، لنستمتع برؤية فن العمارة القديم في الشرق الأوسط بشكل خاص، باعتبارها تراثيات من حضارات ما زلنا نلمس قوة وجودها الفني والهندسي، وحتى العمراني ان من ناحية الشكل والهندسة، وان من ناحية الفن التشكيلي أو الفوتوغرافي الذي يحفظ القيم الجمالية المختزنة في صور قديمة لمستشرقين نقلوا صورا عن العرب وتراثياتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولكن بلغة فنية تحاكي حواس الأجيال كافة، وبجدلية لا تخلو من منظار مدروس تقنيا يتجدّد عبر الزمن من خلال فن العمارة الشرقية والفن المعاصر.
ما من عمل فني تشكيلي أو فوتوغرافي أو حتى أدبي إلا ويحمل في طيّاته ثيمات تحفظ التراث العمراني، ليبقى في الذاكرة كمنارة تضىء لنا التاريخ الذي يضفي بنواحيه الجمالية قيمة فنية مضافة لتاريخ الشعوب الشرقية المشهود لها بالإعجاز العمراني، فما يحمله فن المعمار الشرقي المؤرشف فنيا من خلال وسائل متعددة منها التشكيل والفوتوغراف، والتي لم يبقَ منها إلا ذلك في الكثير من الأحيان، كالبيوت القديمة في البلاد العربية التي اندثر منها ما يكفي، ليجعلنا نتمسّك بالصورة كأرشيف يحفظ لنا معالم التاريخ، لفن المعمار الشرقي القديم الذي يضاهي بجمالياته فن العمارة المعاصر بل ويتفوّق عليه، لأنه بمثابة لغة تراثية نستدل من خلالها على أنماط الحياة الاجتماعية التي كانت معروفة حينذاك في القرون الماضية، كالأهرامات في مصر، والقلاع، والحصون، والقصور، والمساجد، والكنائس، وما الى ذلك مما حمل من الطابع الشرقي للحضارات العربية ما جعل من المستشرقين ينقلوه تصويريا أو بلاغيا إلينا عبر الزمن من خلال لوحة تشكيلية أو صورة فوتوغرافية أو حتى رسالة أو كتاب.
تروي الصور القديمة التي رسمها المستشرقين ان بعدسة ضوئية أو بريشة لونية قصة حضارات، والمراحل المختلفة التي مرَّ بها فن المعمار الشرقي المرتبط بأنماط الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وما تمثله من رخاء وزخرفة أو بساطة واختزال ، كالتفنن في البيوت الحجرية أو الطينية التقليدية التي ما زالت آثارها حتى الآن تشهد على نمطية العيش، لأزمنة شهدت جماليات متعددة في العديد من التفاصيل المعمارية التي نراها في صور ولوحات المستشرقين الحاملين لواء الانطباعات الشرقية المؤرشفة في أعمالهم الفنية حتى الآن، والشبيهة بمنظار موجّه على الماضي والمستقبل في حاضر يبحث عن كلاسيكية تقوده نحو العصر الحديث برؤية مغايرة كليا، مما يعكس روح العصر القديم وجوهر الشكل وقيمته الجمالية المبنية على أشكال هندسية ما زالت مستخدمة حتى الآن.
يؤكد فن المعمار القديم على أهمية التوازن في المستويات العمرانية مع الحفاظ على محورية التماثل التقليدي، لتصميمات ذات فعالية تتأقلم معها مادتي الطوب والحجر مع الأسطح والكرانيش المميّزة جماليا، فالتوليفات المنظورية في أكثر الصور التي تحمل عبء أرشفة تضمن إظهار جمالية التصميم البنائي والعمراني بشكل عام، ومع الحفاظ على تاريخ الملامح في كل صورة تحمل إرثا تاريخيا. كما في صورة قلعة صلاح الدين عام 1967 حيث تظهر القلعة مع محيطها الكامل بكل ما فيها من تفاصيل عمرانية وبيئية، مما يجعلها تتفرّد فوتوغرافيا في أسلوبها الوظيفي الذي يحافظ على جمالية الصورة مع الاهتمام بالمضمون، والأبعاد الزمكانية التي تحدد فترة الصورة الزمانية والمكانية، وموقعها وما تتميّز به هندسيا، ومن ضمن وحدة العمل الفني كفن يبحث عن الجمال، وعن فن معماري مؤرشف من خلال صور لا نعرف عنها إلا انها لمستشرقين مرّوا من هنا.
في الصور القديمة للمستشرقين! حيرة تنشأ من عصف يثير زوابع التعجب، الذي يضعنا أمام صراع ذهني يؤدي الى استنتاج فني ذي حقيقة جمالية تتآخى فيها كل مقومات الجمال المعماري حيث نرى في صورة لبناء في القاهرة عام 1959 أسلوبا معماريا له مقوماته الهندسية، وديكوراته الخارجية من شبابيك معقودة تتناسب مع الطول والارتفاعات الممتدة باستقامة لا جمود فيها، ومتوازنة من حيث عدد الشبابيك والفتحات الظاهرة، كتقسيم متأثر بفن العمارة الإسلامية، والامتيازات التي يتمتع بها تراثيا حتى الآن، وهذا ما توفره الصورة من تكوينات جمالية نرى فيها قوة الزمن في الحفاظ على مفردات فنية احتفظت بها صورة توفّر وظيفيا اختصارات حداثية شعرنا بها في عصرنا هذا، ولكن هي توطّد مفهوم وحدة الصورة، وقيمتها الجمالية من حيث قدرتها على منح الملامح قوة معنى وأسلوب، ومضمون جمالي فوتوغرافي تختزنه بوعي هندسي له منظوره التصويري الذي تؤرشفه الصورة القديمة، باعتبارها تمنح الفكرة التاريخية بُعدا زمكانيا نكتشف من خلاله الحضارات الشرقية، والتي توحي بصلابة الإنسان في تلك الفترة وتمسّكه بتراثيات معينة، وفن معمار شرقي اهتم به الفنان قديما واحتواه بكل جمالياته الفنية والهندسية والبنائية.
ان الصورة الإبداعية هي نتيجة فنية انبثقت بصريا من طبيعة عناصر تكوّنت، وتجمعت تحت بوتقة مفاهيم استشراقية هي بحد ذاتها تخضع لمقاييس مختلفة ذهنيا بصريا وحسيا من حيث قوة تأثيرها وتأثّرها لتوضح لنا قوة أهميتها الفنية على إبراز التراث العمراني، وعلى مكان وجودها كصورة تروي معالم أزمنة لم نعايشها إنما لمسناها من خلال الأماكن الأثرية التي تحتفظ بصورتها حتى الآن، كالأهرامات ومجسّم أبي الهول التي تتضارب فيه القيمة الروحية لجمالياته، وإصراره على البقاء ضمن فضاءات مبسوطة على الأرض، وفي مخيّلة مملوءة بالإيحاءات التي تخاطب بعقلانية الوجدان الفني الذي يمحو العبثية الزمنية، ويضعنا وجها لوجه أمام أمكنة تحمل روح عصرها بامانة فنية، والمفروضة تباعا برمزيتها القديمة بسبب تطوّر الإنسان، وتطوّر المفاهيم التصويرية للأعمال الفنية التي تحمل نفحة جمالية عن قيمة المعمار الشرقي، وقيمة الشرق في الاحتفاظ بهذه المفاهيم العمرانية المنقولة من المستشرقين أنفسهم.
تفرض القوانين الخاصة للزمن مغايرات، وتحوّلات تتمثل في إظهار ديناميكية حركية تتشكّل في سرعة البديهة الحسية، الظاهرة في أكثر من صورة قديمة هي بمثابة الرئة لأرشيف تراثي نحتاج للتوسع في شرح أهدافه العامة والخاصة، كلّ وفق رؤاه الخاصة من حيث الطابع العفوي والديناميكي، والمعادلات التقنية المستقلة بتعاملها ما بين الداخل والخارج، والأسلوب والمضمون والإيحاء الفكري بفطرية الصورة. رغم ان الكفاءة الأولى والأخيرة هي للصورة التي تؤرشف لكل حركة استشراقية يتولد عنها فنيا إرثا لا يستهان به نستفيد منها من خلال إعادة النظر في المفاهيم الفنية بشكل أو بآخر حيث ان لكل زمن دوره المعماري الخاص الذي احتفظت به صورة أو لوحة أو نص أدبي.
مراحل جمالية مصممة لراحة الإنسان الهادف الى إيجاد جمال متوازن يجعله بشعر بالراحة، فالصور القديمة مفتوحة بصريا نحو آفاق زمنية تعتمد على طبيعة المكان باعتباره المؤشر الفعلي الذي تظهر من خلاله معالم الشعوب الحضارية من ناحية العمران، والحركة الاجتماعية التي تمتلك مقوماتها الشرقية والجمالية الخاصة، وهذا ما يعكس قيمة الصور الفنية التي تكتنز في داخلها مفاهيم فن العمارة القديمة مع الاحتفاظ بالقيمة التشكيلية أو الفوتوغرافية من حيث الأبعاد والمنظور والمحور الجمالي المبني على قواعد تصويرية تحتفظ جماليا بمقومات فن التصوير الفوتوغرافي أو التشكيلي الذي يؤرخ لحقبة زمنية ظهرت فيها العمارة الشرقية بأبسط أنواعها، وأجمل أشكالها، وبأقوى أركانها الهندسية التي جعلت منها منارة للمستشرقين.