حين دلفت من بوابة Aigues Mortes، تلبّسني شعور الجاسوس، جاء من الطرف الشرقي للبحر المتوسط، من ساحل الشام، من ساحل جبل لبنان، بل من ساحل لبنان، إلى مونبلييه، حيث كانت تحضر العساكر في القرن الثالث عشر، تحت إمرة القديس «لويس - Saint louis»، وهو لويس التاسع، لإنزالها في المستنقعات التي تسبق ساحل البحر المتوسط، في القرى المحيطة بما أسموها «الأرض الميتة» آنذاك، حيث كانت تسمى: Aigues Mortes.
شعرت لدى دخولي إليها، للوهلة الأولى، أني معني بهذه المدينة، التي يحيط بها المستنقع الذهبي المالح اليوم. وقد عرف بالمستنقع الذهبي، للون مائه الأحمر المتميز به، على الرغم من ممازجته لمياه البحر المتوسط، بعد أن شق القديس لويس ترعة تصل بين المياه الميتة الحمراء، بمياه البحر الزرقاء، لتسيير بوارج الجند وسفن التجارة والشحن. فكان ذلك أول ميناء لمونبلييه على البحر.
كان القديس لويس يريد أن يبرهن، وهو يحضر ويؤم الكتائب القادمة إليه من شتى بلاد الفرنجة، لعسكرتها، وإرسالها في السفن الحربية لمعاونة الفرنجة هناك، أن هذه المياه الحمراء سوف تظل على حمرتها بين الشرق والغرب، لأن الغرب هو الغرب ولأن الشرق هو الشرق، كما كان يقول رينان.
كنت أريد أن أعرف سر المحافظة على هذه المدينة بصورتها العسكرية القديمة، قبالة الساحل الشرقي. فهي لا تزال تحتفظ بأبراجها كلها، وهي لا تزال تحتفظ بسورها المربع العظيم الذي يبلغ طوله 1,7 كلم، دون أن تحدث له حادثة. كنت أسأل عن إحتفاظ «مدينة العسكر»، العسكر الذي جاء من كل أرجاء أوروبا، ليكون تحت إمرة القديس لويس، في المهمة التي إختارها، للذهاب إلى مصر وتونس، ونجدة الممالك الإفرنجية التي أنشئت هناك. وكيف إستطاع من خلال تخطيط هذه المدينة، وإعلاء أسوارها، أن يجعل منها المدينة الأيقونة، في غايتها وفي منتهاها على حد سواء.
كنت أنظر إلى سور المدينة/ القلعة في أغمورت، فأرى سور قلعة طرابلس، والمدينة الخربة تحتها. كنت أريد أن أقابل بين الأبنية التاريخية داخل السور هنا، والأبنية التاريخية تحت القلعة بطرابلس هناك. كنت أريد أن أفهم، لماذا ظلت المدينة هنا، على كامل جلالتها التاريخية هنا. ولماذا خربت المدينة هناك؟!
أسقف إغمورت من فوق، غيرها من تحت. يمنحك الوقوف على سور المدينة، قراءة جديدة للمدينة. يمنحك الوقوف فوق برج المدينة، قراءة جديدة لآفاق المدينة. يمنحك الدخول إلى سلالمها الحجرية اللولبية.. يمنحك كل ذلك وغيره الكثير، شعورا لا تذوقه، إلا وأنت تنحني لكبرياء التاريخ.. إلا وأنت تنحني، لكبرياء المدينة.. إلا وأنت تنحني لأمجاد المدينة، التي أرادت أن تجسّد أيقونة البرهة التاريخية، في التطلّع إلى الشرق والغلبة عليه، وأن تعيد وأن تكرر، ما قاله رينان: الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، ولا يلتقيان.
الكاتدرائية الدهرية التي قرع القديس لويس أجراسها، لا تزال شاهدة، على برهة الحرب بين الشرق وبين الغرب. الكنائس المنتشرة في زوايا المدينة وفي أرباضها، تؤكد وحدة الأهداف، التي إلتأمت عليها الأجناد القادمة، من جميع بلاد الفرنجة على الإطلاق; من روما، ومن بزنطية، ومن عمق أعماق بلاد الصرب والمجر والبلغار وروسيا. ولا تزال الطريق من روما إلى مونبلييه، ماثلة حتى اليوم. وهي أيضا تعرف بهذا الإسم، في كتب التاريخ والجغرافيا، ولدى المؤرخين والجغرافيين على حد سواء. ولا يزال القديس لويس يذكر، وهو على صهوة جواده، وبيده السيف والمسبحة، أن الشرق، يجب أن يظل الهدف، لجميع تلك الخيول الجامحة، لجميع تلك السيوف الشاهرة والممتشقة.
ماذا يقول الزائرون، حين يدخلون إلى التاريخ الحديث، من بابه القديم؟..
فقط يتذكرون رؤى الشرق في العيون المالحة. يتذكرون كل حرب مضت، أو هي همدت، كأنها كانت البارحة.
حجارة أغمورت، تقول أن النفوس التي سالت هنا في المستنقع الأحمر، منح القنال بين المدينة المعسكرة والبحر شهوة الملح وشهوة الدم. وخلّدت الشهوة الجامحة.. خلّدت الشهوة الجانحة.
ماذا يقول البجع الأحمر، فوق مستنقع الملح الأحمر؟ ماذا يقول لأغمورت، لجدران بيوتها، لحجارة الأرصفة التي ينقرها كل يوم، لبقع الدم التي تشربه ويشربها.. ماذا يقول لهاتيك العيون الحمر، التي إذا نظرت في الأفق، كانت ترى نهايات الصواري الذاهبة إلى الشرق، نهايات الأيدي المالحة، ونهايات البيارق الملوحة؟!
فوق أسطح، بل أسقف أغمورت، برهة جاثمة على حجر، برهة جامدة في مربض، في مبرك، في شق جدار من حجر.
من يحرك البرهة الجامدة، ويجعلها تسيل من جديد نحو الشرق؟.. من يستيقظ الحجر؟!
فوق أسطح أغمورت، لا تزال الشعلة التي أضاءها القديس لويس، مشتعلة. تستيقظ منارة المرفأ، تستيقظ السفن التي أفلت، السفن التي غرقت، السفن التي كسرتها الريح، السفن التي تحطمت.. فلا تزال الأطماع هي الأطماع، مثلما لا يزال الشرق هو الشرق، ومثلما لا يزال الغرب هو الغرب، في البرهة الجامدة مثل حجر، ألقي في المستنقع الأحمر، يبحث عن الذهب الأحمر، عن الذهب الأبيض، واليوم يبحث عن الذهب الأسود. لا فرق في عيون السدنة بين ألوان الذهب. المهم هو الذهب، ودونه فارق اللون، دونه فارق التاريخ، دونه فالق البحر، بين شرق وبين غرب.
فوق سطوح أغمورت، ترى القرميد الأحمر في المدينة المستأمنة، مسكونا بالحمام الزاجل، يبعث الرسائل، إلى كل الجهات.
متى تجيء الرسالة العاجلة، من القديس لويس: بأنه حان الوقت.. بأنه حان البحر.. بأن حانت الرؤوس أيضا، أن تقطف.
كنت أرى فوق أسقف أغمورت جميع الرؤوس التي قطفت، التي قطعت، في الربيع العربي: في تونس وليبيا ومصر والعراق.. ولا تزال أغمورت تحتفظ بأسماء الرؤوس المستعجلة، مثل الفاكهة المستعجلة، في لبنان وسوريا، بل من الماء إلى الماء. فماذا يقول الماء الأحمر الميت في أغمورت، للماء الأزرق الميت في المتوسط، وحتى في البحر الأحمر، غير قراءة الفاتحة؟
متى يستيقظ الشرق: إن في أغمورت حجرا، لا يزال مسكونا بتاريخه. إن في أغمورت مستنقعا لا يزال مسكونا، بالصواري. وأن أسطح التاريخ لا تنام على شاطئ البحر، بل تستيقظ الأرياح كل يوم، أشرعة الصواري، كما تستيقظ الأمواج رجال السفن الجوعى، إلى الأموال، تغسلها الحروب، فتصبح غب كل حرب، نظيفة من النهب. يموت النهب و المنهوب، يسقطان مضرّجين في المستنقع الأحمر.
اليوم، فوق سور أغمورت.. فوق أسقف أغمورت.. يضحك الرجل الأبيض.
أستاذ في الجامعة اللبنانية