بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 أيلول 2022 12:00ص إخفاء جمهورية

حجم الخط
كل يوم يمرُّ، كل ساعة تمرُّ، كل ثانية تمرُّ، أشعر أن شيئا ما من الجمهورية قد ذاب واختفى.
كل يوم يمرُّ أشعر أن شيئا من الجمهورية تقلّص واختفى من الأرض، اختفى من الصدور، اختفى من الكلمات، اختفى من المشهد الإجتماعي، من المشهد السياسي، من المشهد الدولي، من المشهد الدولتي.
كلما سمعت حديثا.. كلما سمعت كلمة.. كلما قرأت.. كلما انتبهت.. كلما أفقت.. كلما استيقظت: أشعر أن جزءا عظيما من الجمهورية قد تقلّص واختفى.
لم تعد الجمهورية مقيمة بيننا، غادرتنا منذ نصف قرن. وهيهات، هيهات أنت تعود. لم تعد تأنس بنا، ولم نعد نأنس بها. لم تعد تؤانسنا أصلا. صرنا قطيعا سارحا في السهوب، صرنا نفتش عنها، عن أنفسنا، في كل مكان، فلا نجد إلا بعض آثار تدلّ عليها، بعض آثار تدلّ على أنها كانت هنا. صرنا نبحث عنها في الكلمات وفي الأوراق وفي الخطب، فلا نراها، ولا نشم ريحها، ولا نستنشق عطونتها، ولا نجد إلا عروسا مشوّهة قتيلة، غطّت وجهها بيدها، واستلقت على تقاطع، على مفرق، على مفترق.. قالوا لنا: دعوها نائمة على رصيف المدينة. ولم يقرّوا أنها صريعة. لم يقرّوا أنها قتيلة. لأنهم لا يريدون أن يقرّوا بأنهم حين أردوها، جعلوا الردى فينا.
يخرج المتبارزون كل يوم، يقتتلون من الصباح حتى المساء فوقها، يتشاتمون، يتناكفون، يضيّعون عمرها وعمرنا.. ثم يعودون إلى قصورهم، إلى يخوتهم، إلى طائراتهم، إلى عروشهم، إلى خنادقهم.. يضعون خطوطهم، يرسمون خططهم، سرّا وعلنا، فوق جدث الجمهورية. يرتاحون كثيرا حين لا يسمعون نبضا لها. ينشرحون جدا أنها صارت قتيلة.
منذ مئة عام، وهم يحلبون الجمهورية، يجعلونها دجاجة لهم، حقلا، مزرعة، ملعبا، حديقة خلفية، يخططون كل يوم لإخفاء الجمهورية، حتى ما عاد لها أثر بيننا. صرنا نفتش عنها في جميع الأمكنة. صرنا نبحث عنها في الصدور وفي العيون وفي الكلمات وفي الخطابات. كل شيء إنغلق علينا، ولم نعد نستبين الجمهورية، ذابت معالمها، زالت عن الأرض، فإنكشف الأمر.. صارت فوق رفوف النسيان، علاها الغبار، غطّاها، ولم نعد نرى إلا جزيئات يسيرة منها، إدارات كانت للجمهورية، وزارات كانت للجمهورية، رئاسات، مهرجانات، مستشفيات، جامعات، مدارس، منشآت كهربائية، خزانات للمياه، طرقات مرافق، مرافئ.. كانت كلها، فيما مضى من الجمهورية.
إخفاء جمهورية، مثل إخفاء جريمة. طمس معالمها، جميعا، جريمة. تشويه إداراتها، تشويه رئاساتها، تشويه مجالسها، تشويه سلطاتها، جريمة.. بل أبشع جريمة. لم يعد من الجمهورية، أي شيء يدلّ عليها.
ماتت الجمهورية في نفوسهم، ماتت في وجداناتهم، ماتت في مشاعرهم، ماتت الجمهورية في أوراقهم، صارت صفراء مثلها، مثل وجوههم. صرنا نحدّق في ذبولها يوما بعد يوم، ولا نستطيع فعل شيئا لأجلها، لأنها صارت من قبورنا، من مدافننا، من أجداث من ماتوا لأجلها.
هل يستطيع إنسان على الكوكب، أن يعيش بلا جمهورية؟ هل يستطيع إنسان على الأرض، أن يمضي وقته، عمره، بلا جمهورية؟ كيف يعملون إذن، على إخفائها؟ كيف يعملون على خنقها؟ كيف يعملون على قتلها؟ كيف يستطيعون العيش بدونها؟ بل كيف يتنفسون بلا جمهورية؟ أزعم أنهم صاروا من أوثانها، من أصنامها. أزعم أنهم تكلّسوا فيها، فما عادوا من رجالها.
الجمهورية... ثم الجمهورية... ولا شيء غيرها، يجعلنا نطمئن إلى أرضنا.. يجعلنا نطمئن إلى غدنا. الجمهورية هي الطريق إلينا، هي الطريق لإستعادة أنفسنا، لإستعادة تاريخنا، لإستعادة كرامتنا.
يعتلون المنابر بلا جمهورية، فلا أحدا يصدّقهم، مهما بالغوا. يتصدّرون الشاشات، تملأ أصواتهم الإذاعات، يندلق لعابهم فوق صدور الصحف والمجلات، يزيّنون أكاذيبهم، يوشونها، فلا أحد يصدقهم. لأن الناس، استيقظت عليهم، فما وجدت جمهورية. الناس في بلادنا لا يريدونهم، لانهم سارقو الجمهورية، قاتلو الجمهورية، حارقو الجمهورية. الناس تريد الجمهورية، ولا تريدهم، لأنهم لصوص جمهورية.
لا قيمة لكم إذن، بلا جمهورية، مهما كنتم فصحاء، ومهما كنتم نبهاء، ومهما كنتم حكماء وبلغاء وسحرة وشعاوذة، لأن الناس تنظر إليكم، لقطاء، مجرد لقطاء، لأنكم أضعتم الجمهورية، لأنكم سرقتم الجمهورية، لأنكم قتلتم العروس التي عشقناها، وعشنا على حبها عقودا، فنهضتم إليها وخنقتموها بأيديكم. خنقتم فيها الصوت الحر، والكرامة والعدالة والحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية.
الناس في بلادي، تتحرّى عن سر إخفاء الجمهورية. الناس تسأل عن قتلها، عن جريمة موتها على أيديكم. الناس تسأل عن سر خنقها على أيديكم، فلا تجد سببا، إلا إصراركم على سرقة أرض الجمهورية، سرقة الجبال والوديان والغابات والأنهار، سرقة البساتين والحقول الزراعية، سرقة الشاطئ والبحر، والبر والمال والسائمة، والطير في سمائها، والأسماك في بحارها، وكل ما يتصل بأرض الجمهورية.
نقولها بكل صراحة: أخفيتم الجمهورية عن عيوننا، حتى تسحبوا الأرض من تحتنا، حتى تمسحوا دمها عن وجوهنا، حتى ننسى جريمتكم، حين ننظر في وجوهكم الصفراء مثل نحسنا مثل نحاسياتنا، هذا هو سركم الذي لا تفصحون عنه، لأنه فيه مقتلكم، ومقتلنا، لأن فيه سر إخفاء وإختفاء جمهورية.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية