من السهل أن تتوقف عن القول، ولكن ليس من السهل أبدا أن تخترق جدران الصمت. إنهاء الصمت أصعب بكثير، لأنه إيذان ببدء القصيدة.. لأنه إيذان ببدء الشعر.. لأنه إيذان ببدء الحكم، بالنطق بالحكم، بالنطق بالحكمة، بالنطق بالحقيقة المرعبة، بالحقيقة المفزعة، بالحقيقة التي تهز جدران الصمت المريب، جدران الجريمة.
الصوت الذي يهزّ جدران المريبين والمرابين، الذين يبيعون ويشترون خلسة، الذين يهربون وطنا بأمه وأبيه خلسة، الذين يدخلون خلسة، ويخرجون خلسة، ويعتدون على الناس خلسة، يعتدون على الدولة خلسة.
الذين يهربون بالوطن، خارج الوطن، ويرينون بالصمت، تماما مثلما تفعل الجرذان المعتصمة بصمتها، في العتمة المظلمة، حين تختلس مؤونة البيت، عفشه، فرشه، حصره، ترابه: تحفره، تخرّبه، وتجعله خربة. ثم تفرّ بما تحمل منه، بما تسرق منه إلى جحرها، حيث يرين الصمت الذي لا يلبث أن يدل عليها.
إنهاء الصمت، حملة بشرية، على رأسها الإنسان، منذ أول عهده في مملكة الأرض. تراه يراقص نفسه، يوقع رقصه، حتى لا يصمت، حتى لا يأسره الصمت. تراه يخاطب نفسه، ويخاطب قايين، حتى لا يصمت. تراه يخاطب الحجارة والطير، والبحر، وسمك البحر، والوحش الذي يهاجمه، حتى لا يقع فريسة له. تراه يقاومه بصوته. تراه يقاتله بصوته.تراه ينتصر عليه بصوته، ويجعله يتعثر، يتعفر، ثم يهرب من وجهه.
رأى ذلك المتنبي بنفسه، ذات يوم على بحيرة طبريا، حين قال في «بدر بن عمار»، يصارع أسدا هاجمه:
«أمعفر الليث الهزبر بصوته/ لمن إدخرت الصارم المصقولا»
نعم، كم من إمرأة معنّفة، «مدعوسة»، إنتفضت فجأة، وأنهت فرصة الإهانة. أنهت فرصة المهادنة. وصرخت تسترد حقوقها المستلبة. هي اليوم خرجت في تشييع مغدورة، في تشييع مغدورات، في تشييع موؤدة، في تشييع موؤدات، خرجت بأعلى صوتها، واخترقت جدران الصمت، حيث يرين الصمت بسيف من السلطان، أو بسلطة أقوى من السيف، بسلطة أقوى من سلطة الرجل «الديّان».
الشعب المدني الراقي، يسترد كرامته، بإعلاء شأنه نفسه بنفسه، بإعلاء صوته، نفسه بنفسه. يكسر حاجز الصمت بينه وبين المستبدين، حتى ولو كانوا من فئة الحكام، الذين أخذوا الدولة بـ«البلطجة». أخذوا الدولة بسلاح الميليشيات. أخذوا الدولة، وأخفوها عن أعين الشعب: رغيفا وكتابا، ونورا، ودواء، وحريات، تحت سترة العباءات.
ليس هناك في الدنيا من قوة أقوى من قوة الصوت. دليلي على ذلك، صراخ وليد، ولو خارجا من ظلمة الرحم، من ظلام الرحم، فما بالكم بالشعب، وهو يتلمس بدنه، يتلمس أعضاءه، يتلمس يديه، عيونه، آذانه، أنفه، فمه: خارجا من ظلام عهد، من ظلمة عهد، عجز عن أن يصون الكيان.
الصرخة هي الحل.. جسّدها الفنان النروجي «إدفارت مونك» في لوحته التعبيرية، «الصرخة» التي رسمها العام 1893م. قطع مونك حبال الصمت بالصرخة، جعلها صرخة مطلقة، لا تحتاج إلى سيف قاطع لحبال الصمت، كما يفعل المتسلطون، لأنها أقوى من السيف في بحيرة طبريا، بل أقوى من مدافع نابليون في حصار موسكو، ومن مدافع أحمد باشا الجزار في حصار عكا، ومن نيران الإسكندر، في حصار صور، ومن نيران أرتحتشتا، في حصار صيدا، ومن مدافع بني عثمان في حصار فيينا.
قررت اليوم أن أستصرخ الورق الأبيض الذي أهين تحت قبة البرلمان.. لماذا لا نذهب إلى البرلمان اللبناني، نجمعه، ونحفظه. نستصرخ الأوراق البيضاء التالفة، ننفحها للفتيان وللفتيات، للكتّاب والأدباء، للشعراء والرسامين.. يستصرخونها، ويقطعون بها حبال الصمت، حتى لا تكون قبة أخرى، فوق صمت، مثل صمت المقبرة. حتى لا تكون قبة أخرى، فوق صراخ الكفن الأبيض، فوق صراخ الورق الأبيض، يصنعون منه سورا محايدا، حتى يمنع الصوت، من اختراق جدران وطن، أهالوا عليه التراب.. فصار مقبرة.
إنهاء الصمت، صار حاجة وطنية، يجب الذهاب، إلى كل الجهات، بصرخة إدفارت مونك.. نصرخ في وجوههم. نستيقظ الورق الأبيض، نستصرخ صمت المقبرة. نستصرخ الكفن الأبيض، فلا نرقع به أفواهنا، خشية السيف، فالسيف أيضا له صوت يصدعه، له صوت يفله، له صوت يثلمه، وقديما قيل: «صادف درء السيف درأ يصدعه».
ليس أعظم من صوت الرعد، يشق الطبيعة الصامتة، يشق سور المقبرة، يستيقظ الحجارة في الجدران، ويهدم البنيان، ينهار بصوت، أقوى من صمت المداميك المرصوصة، وراء جور الحكام، تجرر أذيالها تيهاً، فيأتيها الصدى رعبا من هدير الشعب، من رعده في الليلة الدجى.. فتنهار مداميك الحكام الطغاة، مداميك السلطة الطاغية.
ليس أقوى من صوت الشعب يخرج من الساحات، يصرخ فوق أسوار الباستيل، فيصدعها.. يشقها شقا بصوته.
يخرج الناس إلى حرياتهم، في المدارس والجامعات والأسواق والأعياد والأعراس والمعابد. يخرج الناس بالصوت، يفلون قوة السوط. يستيقظون النيام منذ أول العهد، ويزجرونهم بقوة الصوت.
إنهاء الصمت، دخل شهره الآن، يقطع حبال الحبلى، يجتاز المسافة، ما بين الصمت والصوت، ما بين الرحم والرحمة، فمتى يهدر صوت الرحمة في الآذان؟ متى تدق/ تدك «جدران الخزان»؟ متى تقرع الأجراس؟ متى يؤذن في أذن الصمت بالصوت؟
تلك هي المسألة.
أستاذ في الجامعة اللبنانية