بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 حزيران 2021 12:00ص احتفالاً بالعهدة العمريّة في ذكراها السّنويّة: المسلمون والمسيحيون والقُدْس (3)

حجم الخط
لَئِن ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني، (المتوفي سنة 852 هـ/1449م)، وهو من عُرَفَ بشيخ الإسلام وأمير المؤمنين في الحديث، وكان من كبار ناشري الثقافة الإسلاميَّة في حياتِهِ، في الصَّفحات من 196 إلى 218، من الجزء السَّابع من كتابه «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»، أنَّ الرسُّول  صلى الله عليه وسلم صلّى في بيت المقدس بجميع الأنبياء إماماً، وقد بعثهم الله من رقادهم ليجتمعوا إليه؛ وتابعه في هذا، آخرٌ من كبار علماء المسلمين، هو جلال الدين السُّيوطي (المتوفَّى سنة 911هـ/1505م)، في مؤلَّفهِ «الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء»، الصَّادر عن «دار الحديث»، في القاهرة، طبعة سنة 1988، فذكر اجتماع الأنبياء والرُّسل كافَّة، ليلةَ الإسراءِ بالنَّبي محمَّد  صلى الله عليه وسلم، من «المسجد الحرام»، في «مكَّة»، إلى «المسجد الأقصى»، في «بيت المقدِس»، وصلاتهم جميعاً بإمامته؛ فإنَّ في الإجماع الثَّقافيِّ الإسلاميِّ على هذا الموضوع، عبر تعدُّدِ الحقب ومَرِّ العقود وتوالي السِّنين، بل والقرون، ما يساهِمُ في حضورٍ لدلالةٍ رمزيَّةِ مفهوميَّة، لهذه الصَّلاةِ، ذاتُ أبعادٍ متنوِّعة.

لعلَّ من أوَّل الدَّلالات الثَّقافيَّةِ للرَّمزِيَّةِ المَفهُومِيَّةِ، لصلاةِ النَّبيّ محمَّد  صلى الله عليه وسلم، بالأنبياء والرُّسُلِ، في «المسجد الأقصى»، أنَّ هذا المسجد موقعٌ حدَّده اللهُ لتلاقي الدَّعوات التي أوحى بها، سبحانه وتعالى، إلى رُسُلِهِ وأنبيائِهِ قاطبةً؛ وفي هذا ما يُدَلَّلَ ما دفع بالخليفة عمر بن الخطَّاب إلى أن يَخُصَّ «بيت المقدِس» (إيلياء) بامتياز عدم خضوعها للفتح العسكري، وأنَّ النَّصارى من ساكينيها لا يرتبطون بالسلطة الإسلاميَّة بشروطِ صُلحٍ، بل إنَّ عهداً هو ما يجمع بينهما. ومن المعلوم، ووفاقاً لما تشير إليهِ معاجم اللغة العربية، والمعاجم الفقهيَّة خاصَةً، فإنَّ الصُّلح، إنهاء الخصومة والاتفاق بعد النِّزاع، بما في ذلك تبيان ما لكلٍّ من الغالب والمغلوب من حقوقٍ وواجبات؛ في حين إنَّ العهد، ووفاقاً للمراجع عينها، يعني الصَّون والرِّعايةَ والتَّفقُّدَ والحِفِظ، وفي هذا ما يؤكِّدُ جانب المودَّةِ والاحترام والابتعاد عن مقولة الغالب والمغلوب.

مسجد من ثلاثة تشد إليه الرحال: بيت الله الحرام والمسجد النبوي

ثمَّة حديث نبوي أخرجه النسائي (693)، وابن ماجه (1408) واللفظ له، وأحمد (6644)، يُخْبِرُ فيه عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، أنَّ النَّبيَّ ، قال إنَّ سُليمانُ بنُ داودَ، سأَلَ اللهَ، فيما سأله، «ألَّا يأتِيَ هذا المسجِدَ أحدٌ»، أي: المسجِدَ الأقصى، «لا يُريدُ إلَّا الصَّلاةَ فيه، إلَّا خرَجَ مِن ذُنوبِه كيومِ ولدَتْه أُمُّه». ولعلَّ في هذا، ما يُلقي بعض جلاء على ما ينتشرُ في فضاءات الثَّقافة الإسلاميَّةِ، قديماً وحديثاً، من حديثٍ مُتَّفَقٍ عليهِ، رَواهُ البُخاري ومُسلم وغيرهُما، يُنْسَبُ إلى الرَّسول  صلى الله عليه وسلم، جاء فيهِ «لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى»؛ وفي هذا ما فيهِ من إجلال الثقافة الإسلاميَّةِ وتعظيمها للمسجِد الأقصى، خاصَّة، وبطبيعة الحالِ لموقِع هذا المسجد في «بيت المقدِس»، والذي أمَّ فيهِ النَّبي محمَّد  صلى الله عليه وسلم رُسُلَ اللهِ وأنبيائهِ في الصَّلاةِ؛ وهو «إيلياء»، في الزَمن الغابرِ، كما هو «القُدْسُ»، في زماننا الحاضر. ومن التَّأكيد العالمي على هذا، أنْ اتَّخذت «لجنة البرامج والعلاقات الخارجيَّة»، في «المجلس التَّنفيذي» في «منظَّمة اليونيسكو»، في شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) سنة 2016، قراراً وردَ فيه «إنَّ المنظمة تَعتبِرُ المسجد الأقصى أحد المُقدَّسات الإسلاميَّة»؛ وذلكَ من دون أيِّ ذِكرٍ لِوجودِ أيِّ رابطٍ تاريخيٍّ بين اليَهود والمَسجد، ومستنكرة اقتحامه المتكرر من قبل بعض المتطرفين الإسرائيليين ومن قبل الجيش الإسرائيلي. والجدير ذكره، ههنا، أنَّ هذا القرار جاء استجابةً لمشروع تم تقديمه من قبل الجزائر ومصر ولبنان والمغرب وعمان وقطر والسودان؛ كما رحَّبت عدَّة منظمات وهيئات إسلامية بهذا القرار، وفي مقدمتها «منظمة التَّعاون الإسلامي» و«مرصد الجامع الأزهر»، و«هيئة علماء المسلمين في العراق»، فضلاً عن السُّلطة الوطنيَّة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية.

المسيحيون والقدس:

تتخذ «القدس» موقعاً محورياً في حياة السيِّد المسيح؛ وذلك في انطلاقته، وفي ثورته، وكذلك في المرحلة الأخيرة من حياته الأرضيَّة، قبل أن يَرفعه اللهُ. يرد، من الآية 41 إلى الآية 52 من الفصل الثاني في «إنجيل لوقا»، أنَّ المسيح طالما كان  يحضر إلى القدسِ في طفولته؛ ولقد كان في الثَّانية عشرة من عمره، عندما لفت إليهِ أنظار من كانوا في الهيكل من أحبار وسواهم. ويذكر التاريخ المسيحي، وفاقاً لما يذكر في إناجيل متَّى 21: 12-17، ومرقس 11: 15-19 ولوقا 19: 45-48، وكذلك في يوحنَّا 2: 13-22، أنَّ السيِّد المسيح أعلن ثورتهُ، بتطهير هيكل حيرود في «أورشليم» (القدس).

كان «العشاء الأخير»، للسيد المسيح مع تلاميذه، في «العلِيَّة» في «القُدس»؛ وكان هذا آخر ما احتفل به معهم. وفاقاً لما يرد في أناجيل «العهد الجديد»، متى 26: 17-30؛ مرقس 14: 12-25 ؛ لوقا 22: 7-20؛ يوحنا 13: 1-30، فإنَّ لهذا المكان، تحديداً، أهميَّة أساس في الوجدان اللاهوتي المسيحي؛ إذ قام المسيح، خلال هذا العشاء في العلِّيَّةِ، بِتبيان كثيرٍ من رموز المسيحيَّة وتعاليمها ومفاهيمها لتلاميذه هؤلاء. لقد غسل أرجل التَّلاميذ، وألقى فيه عِظةً تُعتبر من أهم عظاته وأكثرها طولاً وأشدّها أهميَّةً في تأسيس الوعيِّ المسيحي. وكان أن أخذ السيد المسيح، بعد العشاء، كما يرد في إنجيل لوقا 22-19، رغيفاً من الخبز وباركه؛ ثمَّ أعطاه للتَّلاميذ، معلناً أنَّه جسده، وكذلك فعل على كأس الخمر، معلناً أنه دمه؛ طالباً منهم تكرار هذا الحدث استذكاراً له. ويعتبر الحدث شديد الأهمية، إذ تأسس به سر القربان، وقدّم فيه يسوع خلاصة تعاليمه. الحدث يمثل المقابل الإنجيلي لمناسبة خميس الأسرار. ويؤمن كثير من المسيحيين، اليوم، أن «العليّة»، هذه، تقع على «جبل صهيون»، في المبنى عينه حيث ضريح الملك داود.

إنَّ التلّة المعروفة باسم «جلجثة»، من المواقع المسيحية المقدسة في المدينة؛ وهي موقع صلب السيد المسيح، بحسب الإيمان المسيحي، ووفاقاً لما يصفهُ «إنجيل يوحنَّا»، تقع خارج القدس، إلا أن بعض الحفريات أظهرت مؤخراً أنها تقع على بُعد مسافة قليلة من البلدة القديمة، وتيقى داخل حدود المدينة الحاليّة. ومن المعترف به، على المستويين المسيحي والعالمي المعاصرين، كما كان الوضع زمن إصدار العهدة العمريَّة، أنَّ أعظم الأماكن المسيحيَّة قداسة، ليس في القدس وحدها، بل في العالم المسيحي قاطبةً، هي «كنيسة القيامة»؛ التي ما انفكَّ يحجُّ إليها المسيحيون، من مختلف أنحاء العالم، منذ أكثر من ألفيّ سنة؛ وثمَّة من الباحثين والمنقِّبين، من يرى أنها، وعلى الأغلب، قد شُيدت على الجلجثة، حيث يؤمن المسيحيون بأن المسيح علِّق على الصَّليب.

تضمُّ «حارة النَّصارى»، حالِيَّاً، في «القدس»، نحو 40 من الأماكن والمزارت والمواقع المسيحيَّة المقدَّسة؛ ومنها «كنيسة القيامة»، التي ينظر إليها من قبل جميع الطَّوائف المسيحيَّة، على أنها من أقدس الأماكن في المعتقد المسيحي. 

(إلى اللقاء مع الحلقة الرَّابعة، والأخيرة، «اليهود والقدس»)

----------------

* رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي