بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 حزيران 2021 12:00ص احتفالاً بالعهدة العمريّة في ذكراها السّنويّة: حُضور المسجد الاقصى (2)

المسجد الأقصى المسجد الأقصى
حجم الخط
يمكن استخلاصُ عدَّة أمورٍ، تدخل في البُعدين الثقافي والتَّثقيفي، لهذا الحدث الذي حصل بين أمَّتين، ودينين وحضارتين وثقافتين وشخصين؛ متمثَّلاً بـ «العهدة العُمَرِيَّة»:

أوَّلاُ: أنَّ «إيلياء»، زمنذاك، أو «بيت المقدس»، في المصطلح الثقافي العربيِّ والإسلامي، أو «القدس»، في المصطلح المتعارف عليه راهناً، ما كانت مدينة مفتوحةً حربِيَّاً، على الإطلاق؛ بل كل ما حصَّل، بين الخليفة المسلم والبطريرك النَّصراني، تَمَّ في نقلٍ سِلْمِيٍّ حضاريٍّ للسُلطةِ الإدارِيَّةِ السِّياسيَّةِ فيها، مِن يدِ إلى أخرى. فالقدسُ، بهذه الممارسة العمليَّة، تعني، عند طرفي «العهدة»، المسلم منهما، كما المسيحي، مفهوماً قدسيَّاً لا يرتضي الحرب، ولا يُجيز سفك الدِّماء؛ بل لا يعرف سوى التَّفاعل الثَّقافيِّ المبني على الاعتراف بالآخر واحترامه.

ثانياً: أنَّها مكانٌ أو مدينةٌ، على صِغَرِ مساحتها الأرضيَّةِ وقلّة عديد سكانها، تبقى عظيمة القدر جليلة المكانة؛ والدَّليل، على هذا، انتقالُ خليفة المسلمين إليها بشخصهِ، من عاصمة خلافته، التي كانت سلطتها تشمل مساحة الأرض الممتدة من بلاد فارس إلى بلاد الرُّوم، مروراً بأرض الكنانة، لِمُجرَّد تقديمه عُهدةً بتسلُّمها، وهو أمرٌ كان بمستطاعِ قائده العسكري، الجرَّاح، القيام به بصورة مباشرة؛ الأمر الذي لم يحصل أبداً، ولم يتكرَّر البتَّة، مع أي مدينة أو منطقةٍ أو دولةٍ سعى المسلمون إلى فتحها.

ثالثاً: أنَّ هذه «العهدة»، التي وضعها عمر بن الخطَّاب، وهو الذي اشتُهِرَ بدقَّته المتشدِّدةِ في الحرصِ على التَّمسُّك بالقِيم الدِّينيَّة الإسلاميَّةِ ومفاهيمها، كما عُرَفَ بِصرامَتِه في تطبيق الأحكامِ؛ فإنَّها ما قامت إلاَّ على مفاهيم الاعتراف الإسلامي الواضح بالآخر، والتَّأكيدِ الفعليِّ العمليِّ لِقِيَمِ احترام ما في عقيدة الآخرِ وثقافته من اختلافات؛ حتَّى وإن كانت العقيدة الإسلاميَّة قد لا تُقِرُّها ولا تتَّفق معها في مفاهيمها الثقافية. ولعلَّ في هذا الموقف من الخليفة عمر بن الخطَّاب، ما يؤكِّد، وبجلاء ظاهر، وسطوعٍ باهرٍ، أنَّهُ ما كان في سلوكِهِ هذا المنحى الإنسانيِّ الدِّينيِّ والتَّصَرُّفِ الحضاريِّ الرَّاقي، إلاَّ مُتَّبِعاً لما ورد في الآية 99 من سورة «يونس»، من قول اللهِ، الرحمن الرَّحيم، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، وما وافى بيانه في الآية 256 من سورة «البقرة»، من كتاب الله العظيم، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

رغم أنَّ الدِّين الإسلامي لا يعترف، أساساً، بِصَلْبِ السيد المسيح على الإطلاق، إذ ورد في الآية 157 من سورة «النِّساء»، {قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}؛ كما لا يعترف بموته، وفاقاً لما يرد في الآية 55 من سورة «آل عمران» {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ فإنَّ «العهدة العُمَرِيَّةَ»، أكَّدت حقَّ الآخرَ المختلف في احترام عقيدته الدِّينية والأمكان المرتبطة بهذه العقيدة. لم تكتفِ «العهدة» بأن أقرَّتَ للنَّصارى في «إيلياء» أن يحتفظوا بصلبانهم، بل تركت لهم أن يجولوا بها علانيةً في شوارع المدينة. وكذلك، فإنَّ الخليفة عمر بن الخطَّاب، الذي لا يُجِيزُ أن يكون السيِّد المسيح قد مات، إتِّباعاً من الخليفةِ لما جاء في الآية 158 من سورة «النِّساء» عن نبيُّ الله عسيى، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}؛ فإنَّ عمر بن الخطَّاب لم يمسَّ الموقع المعروف بـ «القَبْرِ المُقَدَّس»، في «كنيسة القيامة» في «إيلياء»؛ وهو المكان الذي يؤمن النَّصارى قاطبةً، أنَّ السيِّد المسيح قد دُفِنَ فيهِ بعد حادثة الصَّلب، بأي آذى أو سوء، لا من قريب ولا من بعيد؛ ولم يصل به الحال، أبداً، إلى أن يهدم موقع القبر، أو يُغْلِقْهُ، أو حتَّى أن يسعى إلى أيِّ تشويهِ له.

تعارف النَّاسُ، منذ أن أُنْزِلَت آية الإسراء، على أنَّ إسراء النَّبيِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم كان في سنة 621 للميلاد، أي قبل زهاء خمس عشرة سنة فقط، من هذا حضور للخليفة عمر بن الخطاب إلى «إيلياء» لوضع «العهدة»؛ فليس ثمَّة تقادمٍ زمنيٍّ قد يكون معه ضياع للمعالم الرَّئيسة لحدث الإسراء، وتحديداً للأمكنة التي كان حصوله فيها. تُجْمِعُ الأقوالُ، ههنا، على أنَّ الإسراءَ كان بانتقالٍ ليلي من «البيت الحرام»، في مكَّة»، إلى مكان هو «المسجد الأقصى»؛ وهذا ما يرد في الآية الأولى من سورة «الإسراء»، من النَّصِّ القرآني، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. ويذكر أحد كبار علماء المسلمين، وهو جلال الدين السُّيوطي (المتوفَّى سنة 911هـ/1505م)، في مؤلَّفهِ «الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء»، الصَّادر عن «دار الحديث»، في القاهرة، طبعة سنة 1988، والحافظ ابن حجر العسقلاني، (المتوفي سنة 852 هـ/1449م)، في الصفحات من 196 إلى 218، من الجزء السابع من كتابه «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»، أنَّ الرسُّول صلى الله عليه وسلم صلّى في بيت المقدس بجميع الأنبياء إماماً، وقد بعثهم الله من رقادهم ليجتمعوا إليه.

يعتقد كثيرون أن «المسجد الأقصى»، هو هذا الجامع المبني جنوبي «قبَّة الصَّخرة»، والذي يُعرف حاليَّاً باسم «المصلى القبلي». وواقع الحال، فإنَّ هذا المبنى لم يكن قائماً، على الإطلاق، آن حضر الخلية عمر بن الخطَّاب، إلى «إيلياء»، في «بيت المقدس». واقع الأمر، أنه لو كان المبنى قائماً، لاختار الخليفة أن يقضي فيه الصلاة، وقد أدركته وهو في الكنيسة؛ ولم يكن ليصلِّي على أرض في العراء؛ وذلك وفاقاً للمتواتَر من قوله «ما كان لعمر أن يصلِّي في كنيسة القيامة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجدا». ومن الثَّابتِ أنَّ «أوثوشيوس الإسكندري» Eutychius of Alexandria، المعروف في الثقافة العربيَّة باسم «ابن البطريق»، وكان طبيباً ومؤرخاً مسيحيَّاً وصار، تالياً، بطريرك الرُّوم الملكيين بالإسكندرية، ولد في الفسطاط في 263هـ/ 877م؛ وقد وضعَ عدداً من المُصَنَّفات، أشهرها كتابه في التَّاريخ «نَظْمُ الجَوْهَرِ»، المعروف أيضًا بـ «تاريخ ابن البطريق»؛ قد ذَكَرَ حادثة صلاة الخليفة عمر بن الخطاب هذه؛ وعنه، نقلها ابن خلدون. ولعلَّ من أبرز من عرض لها من المعاصرين، الأستاذ نصري سلهب، في الصفحة 330 من كتابه «لقاء المسيحية والإسلام»، الصَّادر عن «دار الكتاب العربي»، سنة 1969؛ وكذلك الأستاذ معين أحمد محمود، في الصفحة 62، من كتابه «تاريخ مدينة القدس»، الصادر عن «دار الأندلس»، سنة 1979.

المسجد الأقصى، إذاً، هو مجموعُ ما على هذه الهضبة الكبيرة، التي تتوِّجُها «الصَّخرة»، التي يعتقد المسلمون بأنها المنطلق الذي عُرِجَ منه بالنَّبيِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى السَّماء، في «بيت المقدس»؛ والتي كانت، زمن أداء الخليفة عمر بن الخطَّاب الصلاتِهِ فيها، خاليةً من البناء. وكان أن بنى الخليفة عمر بن الخطاب المسجد سنة 15 للهجرة، في عين الموقع الذي أقام صلاته تلك فيه. أمَّا موقع هذا البناء، وكما يشير الأستاذ عبد الله معروف في الصفحات 90 إلى 96، من كتابه «المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المبارك»، الصادر عن «دار العلم للملايين» في بيروت سنة 2009، فهو «الجامع القبلي» الحالي في الجنوب من جهة القبلة.

(إلى اللقاء مع الحلقة الثالثة: 

«المسلمون والمسيحيون والقُدْس»)



* رئيس المركز الثقافي الإسلامي