بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 أيلول 2022 12:00ص الأسماك الكبيرة في خطر

حجم الخط
بعد السقوط المروّع للبلاد، في الرئاسات والوزارات والإدارات والمصالح المستقلة، وفي الوظائف الخاصة والعامة على الإطلاق، لم تعد الأسماك الصغيرة، وحدها في خطر، وإنما صارت الأسماك الكبيرة أيضا في خطر. لماذا لا تنتبه لذلك هذه الأسماك؟
دهمت الأخطار كل الأبواب الصغيرة والكبيرة. ولم يعد هناك من باب، بمعزل عن الأخطار. سقطت الحمايات دفعة واحدة، فلم تدع الأخطار المحدقة أو المتربصة، بابا إلا ودقته، إلا وقرعته، إلا وطرقته، إلا ودهمته، إلا وأحالته إلى باب متصدّع لا يحمي صاحبه، لا يقيه من الغوائل، لا يردّ عنه النبالة ولا الخيالة، ولا الطرادة ولا البريد الجوال، ولا حتى من يحملون بأيديهم قذائف اللهب والنيران، وريح السموم، والريح الصرصر، المهاب.
لم تعد الأسماك الصغيرة، وحدها تدفع ثمن التأجيل والتسويف، ثمن السرقات والنهب، ثمن رهن البلاد. طالت الأخطار أيضا الأسماك الكبيرة، صارت على لوائح الأهداف. حجزوا لها أمكنتها في بنك الأهداف، صارت في رأس القوائم، في رأس السجلات، في رأس الصنانير، في رأس التوربين، والتوربينات.
لم يعد للأسماك الكبيرة، شبكة أمان منصوبة حولها، تقيها السهام والنبال والنيران، صارت مثل سكان البلاد، في هلع وفي خوف. ولم يعد لها كلمة نافذة على الأقوام، ولم يعد لها من هيبة، من كرامة، من شأن، من إحتساب، أي شكل من الإحتساب، لم تعد مرجعية صالحة لخدمة البلاد ولا لحكم البلاد.
والسؤال الآن: لماذا سقطت البلاد مثل هذا السقوط المريع؟ ألئن حصونها سقطت من الداخل أم تفشى فيها داء الفساد، فنخرها بسوسه، جوف إداراتها، جوف مؤسساتها، جعلها مثل «العصف المأكول»؟ أم لئن حدودها صارت سائبة، لأن سلطاتها قلّصت أدوارها، لأن الطيش بلغ من حيتانها مبلغه، فلم يعد لها من مهابة، ولا من هيبة، ولا من حكمة. بلغ الطيش فيها مبلغه، بحيث تخلّت عن أدوارها.. بحيث تخلّت عن حدودها.. بحيث شرّعت البلاد لكل طامع، بالبلاد.
الأسماك الكبيرة، باعت حوضها، فصارت في خطر. باعت نهرها وبحرها. باعت الهواء الذي تتنفسه. تخلّت عن صغارها للحيتان الوافدة من سائر المحيطات. تخلّت عن صغارها للقراصنة، للصوص، للجلاوزة، فصارت مهدّدة في بلادها.. صارت مهدّدة في قصورها.. صارت مهدّدة في أموالها.. صارت مهدّدة في مأمنها.. صارت تنام وتصحو على خوف، على ذعر، على إنتقام، أمام بواباتها.
الأسماك الكبيرة اليوم، تعيش أزمة وجودية، لأن البساط يسحب الآن بالكليّة، من تحتها. تنظر إلى غدها، فتراه شديد العتمة والظلام والظلامية. فهو على موعد مع التحولات، مع الإنتخابات، مع الحرائق المشتعلة في كل أرض، من بلاد النيل، إلى أرض دجلة والفرات. مع مواعيد الإستحقاقات التي تقتحم وقتهم، ولا تدع لهم فرصة، للتأجيل والتسويف، كما كانت العادة في قديم الزمان.
الأسماك الكبيرة اليوم في خطر داهم. تراهم صباحا ومساء، يعانون عقدة الأخطار التي جلبوها إلى البلاد، التي حمّلونا وزرها، وجعلوا الأسماك الصغيرة تحلف بحياتهم لأجلها طيلة مئة عام، جعلوها في مركب واحد، مع الفقر والمرض والأميّة، ومع الدمار الشامل، من أقصى البلاد إلى أقصى البلاد.. فلا أمان ولا مأمن، من النيران التي تقتحم علينا، كل مكان.
الأسماك الكبيرة صارت محبطة، لأنها تخلّت عن دورها منذ زمان بعيد. باعت مملكتها لشياطين الأرض. باعت ماءها. باعت سماءها. لم تدع شيئا إلا باعته، حتى الحوض الذي تسبح فيه، باعته، وتخلّت عنه، وأفسدت ماءه، فلم يعد صالحا للحياة.
الأسماك الكبيرة تعيش اليوم مأزقها. داهمها الوقت بالإستحقاق الكبير، فأصيبت بلوثة «جنون البقر»، وصارت تنطح نفسها، قبل أن تنطح غيرها. فما بالها تفعل ذلك في المرآة، وهي أمام إستحقاق كبير، إستحقاق كبير يقام له، ولا يقعد.
الأسماك الكبيرة، نعم، هي اليوم في خطر. لماذا هي تنتحر؟ لماذا تدعونا إلى الانتحار؟!

أستاذ في الجامعة اللبنانية