بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 كانون الثاني 2021 12:01ص الإعلامُ العربيُّ المُعاصِر.. مَا لَهُ وما عَليه

حجم الخط
نبيل علي صالح *

تطوَّرَ الإعلامُ العربيُّ شكليّاً في كثير من تقنيّاته وأدواته وتجهيزاته وطُرق عَرضه، حيث امتلكَ العربُ محطّاتٍ فضائيّة وتقنيّات بثّ حديثة ومَواقِع ومنصّات تواصُل إلكترونيّة، واشترى كثيرٌ من رجالات أعمالهم (أو أسهموا في امتلاك) محطّات تلْفزة دوليّة مشهورة في أوروبا وأميركا، لكنّ كلّ ما تقدَّم لم ينعكس تطوّراً نوعيّاً في وعي الإعلام العربي ذاته، في بنيته التفكيريّة وطبيعة خطابه ومهنيّته وحرفيّته التي من المُفترَض أن يلتزم بها صنّاعه وأصحابه في عصر الصورة والتواصُل الميديائيّ المفتوح.

يعني ذلك أنّ إعلامنا العربيّ بقي إعلاماً تقليديّاً ومُترهِّلاً في وعيه وتحليلاته وتمثّلاته لتطلُّعات الجمهور العربي في بناء دُول عصريّة حديثة في مضمونها المؤسّسي وليس في شكلها المَظهريّ فحسب. بقي يدعو للنُّظم ويُزخرِف سياساتها، على ما فيها من أمراض ونقائص سياسيّة وسلوكيّة، لأنّه في النهاية إعلام مملوك لأشخاص ورجال أعمال وسياسيّين، أي هو تابِع لمُحرّكيه ومُشغّليه و»مُستثمِريه» ممَّن يتبعون خطوطاً سياسيّة وأيديولوجيّة وشبكات نافِذة اقتصاديّة، أو مرجعيّات سياسيّة ترغب في عرض قناعاتها وخياراتها السياسيّة وبثّ ما يفيدها في تبييض صفحاتها والتطبيل لها واستعراض قدراتها وبطولاتها.

والذي تفتقد إليه مُعظم تلك الوسائل الإعلاميّة بأشكالها وألوانها المُختلفة، هو قيَم المِهنة وضوابطها ومَعاييرها العِلميّة، لأنّ رسالتها الإعلاميّة موجَّهة مُسبقاً لخدمة أجندات خاصّة ومشروعات سياسيّة، وهذا ما يجعل من خطابها وما تَطرحه من أفكار غير قابلة للاقتناع من قبل الجمهور الواسع الذي تُخاطبه، فيكون اللّجوء للتلفيق بالاستخدام المُبتذَل للأدوات الإعلاميّة المُتوافرة بكثرة..!

لا بل أكثر من ذلك، نحن لا نرى في كلّ هذا المَشهد الإعلامي العربي الواسع والهائل في توسُّعِه وعروضاته وتقنيّاته إلّا تكريساً لخطاب أزمة حقيقي يعكس ما وصل إليه العرب من تخلُّفٍ سياسي واقتصادي وثقافي عامّ، يتمظهر في الفشل التنموي العريض وعدم بناء دُولٍ مؤسّسيّة حقيقيّة قويّة عادلة تتقوَّم بالحقوق والمُشارَكة على الصعيد السياسي، وبالحداثة التقنيّة والعِلميّة على الصعيد الاقتصادي والعَملي.

مُعادَلة غير مقروءة

وقد لاحظنا أنّ هناك مُعادَلة حكمتْ عموم تلك البلدان العربيّة تقومُ – بحسب ما حاوَلت تكريسها كثيرٌ من تلك الأدوات والمَواقِع الإعلاميّة على مَدارٍ زمنيّ طويل – على إعطاء لقمة العيش للناس مُقابل إقصائهم وإلغاء حريّاتهم.. فانتشرَ النهب والفساد، وانهارت الطبقة الوسطى حاملة لواءِ التغيير، وازدادَ الفقراء فقراً والأغنياء غنىً، وتعمّقتْ مَراكز القوى الزبائنيّة، واستحوذت نُخبها على مزيدٍ من السلطات ومَواقِع القوّة والنَّفاذ الآمن إلى المال، وزادت نسبة البطالة بين الشباب، وخصوصاً خرّيجي الجامعات.

والإعلام العربي – في عمومه وكثير من مَواقعه – لم يَقرأ جيّداً ردود أفعال وحقيقة نبض الشارع العربي في رفضه لتلك المُعادَلة، والإصرار على التغيير، حيث أَظهرت تلك الحركة والفعاليّة الشعبيّة الرّافضة، فشلَ النُّظم في تدجين شعوبها على الرّغم من امتلاكها للإعلام الرسمي أو المُوازي، أو حتّى الخاصّ، الذي بادَرَ فَوراً إلى التشكيك بالناس والمُجتمعات متّهماً إيّاها بالتبعيّة للخارج.

هذا التفكير اللّاعقلي المُستقيل هو سبب من أسباب استمرار ارتكاسنا وتخلُّفنا نحن العرب والمُسلمين. وهو يدلّ دلالة قاطعة على حالة الضعف والهوان والخوف التي وصلْنا إليها وعدم ثقتنا بما لدينا، وعدم قدرتنا على المُواجَهة من خلال ضرورة إحياء نهضتنا من خلال تفعيل ما نملكه من مَواقِع قوّة تحتاج لإرادات فاعِلة جديّة فقط.

والحلّ ليس في أنْ ندير ظهورنا لناسنا ومُجتمعاتنا، بل الانفتاح عليها هو الحلّ، والبناء العقلي والتنموي هو الحلّ؛ وتمكين الناس من حاجاتها وحقوقها هو الحلّ؛ وإعادة التأكيد على المَنهج السياسي التعدُّدي القائم على التداوُل السلميّ للحُكم هو الحلّ. فهذا ما يوفِّر المجال واسعاً – من خلال قيمة الحريّة – لنموّ مَواهِب الفرد بعد منْحه حقوقه، الأمر الذي يدفعه باستمرار بمسؤوليّة ووعي، إلى مَواقع الإنتاج الصناعي والتقني.

وللأسف، على الرّغم من توفُّرنا – نحن العرب – على كمٍّ هائل من وسائل الإعلام، لا نعترف بحقيقة هزيمتنا الحضاريّة وانتكاساتنا وأمراضنا المُقيمة فينا منذ زمن طويل. نعم هناك تغطية رسميّة سياسيّة وإعلاميّة عليها، فنحن مُصابون بالوقت نفسه بأمراضٍ كثيرة على رأسها عدم الإقرار بسلبيّاتنا الكثيرة وإنكار الواقع واتّهام الآخرين المُنتصرين عِلميّاً وحضاريّاً بما ليس فيهم!

فهل يشكّ عاقل في هذا الكون في ما يعيشه العرب اليوم من تخلُّف اقتصادي وتنموي وتفكُّك اجتماعي وفَشَلٍ سياسي كبير؟! انظروا إلى تقارير التنمية السنويّة التي تصدرها مؤسّساتٌ علميّة رصينة لتجدوا العجب العجاب من أرقام وإحصائيّات التخلُّف العربي الاقتصادي والتنموي.

لماذا الخوف؟

لماذا الخوف من النّشر الصحيح والإعلان الصريح والمُكاشَفة في ضوء الشمس حول واقع العرب الذي لا يسرُّ صديقاً ولا عدوّاً، وهو معروف بالأرقام والبيانات الدقيقة والمؤشّرات العِلميّة المُوثَّقة عِلميّاً كما قلنا؟! وهل هناك شيء «مُعيب» يُخشى من نشْره والمُكاشَفة به على الإعلام والملأ؟! نعم، الخوف دلالة عجز وإشارة بليغة إلى أنّ المرض حقيقي، وأنّ هناك مصلحة للحُكّام في بقائه واستمراره.

ثمّ لماذا يضطّرُ المُواطنُ العربي – في حال أرادَ معرفة حقائق وضْع بلده الاقتصادي وغير الاقتصادي – لمُشاهَدة قنوات ومحطّات ومَواقِع إعلاميّة خارجيّة، وليس عبر وسائل إعلامه الداخليّة «الوطنيّة» التي يدفع عليها من الضرائب وأموال الدولة، بخاصّة أنّ لديه «تخمة» واضحة وواسعة من وسائل الإعلام العربيّة الرسميّة والخاصّة المُوازية لها، بأنواعها المُتعدّدة والمتنوِّعة والموزّعة في كلّ حدب وصوب ومدينة وبلدة وقرية وحيّ وشارع وزقاق؟!

ثمّ ما هي مُهمّة الإعلام ووظيفته (أيّاً كانت أشكاله وتصنيفاته الخاصّة والعامّة)، طالما أنّه لا يعطي المعلومة الصحيحة والتحليل العِلمي الموضوعي الدقيق، ولا يُقدِّم المُعطيات الحقيقيّة للرأي العامّ؟! هل لأنّها في غير مُتناوَل يده؟ وهل إنّ تغييب الناس (المُفترض أنّهم «مُواطنون» حقيقيّون، ويجب على الإعلام ومؤسّسات الدولة المعنيَّة – بحسب القانون والدستور – إطلاعهم على حقائق أمورهم وشؤونهم، ومُصارَحتهم بكلّ ما يتعلّق بأحوالهم ويتّصل بمعاشهم وأوضاعهم الاقتصاديّة والتنمويّة وغيرها)، أقول: هل إنّ تغييب هؤلاء الناس عن الحقائق وإبقاء المعلومات (بأنواعها كافّة) سريّة (مع أنّه لم يعُد من المُجدي والمُمكن إخفاؤها في عالَم اليوم) يُحقِّق هدف التنمية وغاية التطوُّر المنشود، المُفترَض أن يقوم أساساً على الشّفافيّة والوضوح والدقّة والمهنيّة، وإعطاء المعلومة الصحيحة، وحريّة نشْرها في الرقْم والمعلومة والبيان والإحصاء؟!

في كلّ دُول العالَم، لا يتمّ إخفاء المعلومات المُتعلِّقة باقتصاد المُواطِن وتنميته، وحقيقة أوجاعه وأمراضه، لسببٍ بسيط، وهو أنّه مطلوب منه المُشارَكة في صنْع مُستقبله ومسؤوليّته عنه، وأن يدفع ضرائب لبلده عن قناعة ووعي ووطنيّة كاملة. وهذا لا يتحقَّق من دون معرفته الكاملة بكلّ ما من شأن تفعيل مُواطنيّته ومَعرفته بشؤونه وأوضاعه ومُقتضيات عَيشه وبلده.

المُواطِن هو أساس الوطن

من هنا، يجب أن يأخذَ الإعلامُ – كسلطة رقابيّة تُعرّي وتَفضح وتَكشف – دَورَه الحقيقي النقدي البنّاء المسؤول. وهذا لا يتحقّقُ (ولن يتحقَّ) من خلال إخفاء الحقائق، وحجْب الواضحات، وكمّ الأفواه، واستغباء العقول، وتزييف الأحداث والوقائع، وتسمية الأمور بغَير مُسمّياتها الحقيقيّة، ومنْع النقّاد (والناس عموماً) من تسمية الأمور بأسمائها الحقيقيّة لا الوهميّة، بل يتحقّق بالشفافيّة والوضوح كما قلنا. يتحقَّق الدَّور المسؤول والمِهني للإعلام (ولغَيره من مَواقِع النهوض الوطني والمُجتمعي) بدفْع الناس للمُشارَكة الفاعلة، وبفتْح عيونها لرؤية الأمور، والتعرُّف إلى حقائق الأشياء والأوضاع كما هي، وليس بالانفتاح والتعرُّف إلى سفاسف الحياة وتفاهاتها وترّهاتها من أساليب الدّس والغشّ والكذب والتلفيق والاستغباء والتضليل، والتركيز على ما لا ينفع بل يضرّ.

إنّ المُواطِن هو أساس الوطن، وأساس أيّ نجاح إعلامي أو غير إعلامي فيه. وإذا أردتَ بناءَ وطنٍ سليم مُعافى قويّ ومُقتدِر، عليك بِناء مُواطِن سليمٍ مُعافى، واعٍ لذاته ولِما يدور حوله، والعمل على تنشئته وتربيته على قيَم الحقّ والعدل والإنسانيّة والمُواطنيّة الصالِحة، بإعطائه حقوقه أوّلاً، وبتهيئته وتأهيله ثانياً ليُشارِك في صنْع مُستقبله ومُستقبل بلده.

ولا قيامة لأيّ وطن إلّا مع النّاس، ومن خلال مُشارَكتهم الفاعلة في بناء الأوطان، وبإسهام كلّ مَواقِع الوطن وعلى رأسها الإعلام الحرّ النزيه، الموصوف فعليّاً بالمهنيّة والعِلميّة والانحياز الدائم لقيَم الحقّ والعِلم والأخلاق.

--------------

* كاتب وباحث سوري

(بالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي) ونشرة (أفق)