بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 تشرين الأول 2019 12:01ص التنوُّع الثَّقافي ووحدة الإنتماء الوطني في لبنان

حجم الخط
الانتماء الوطني أمر لا يمكن أن ينبثق أو يكون إلّا عبر الالتقاء الإنساني حول فكرة أساس تشكّل عصب وجوده، بل جوهر هذا الوجود ومنطلقه، إنَّها الوحدة الوطنيّة؛ وهذه الوحدة لا تتحقق إلّا بتوحّد المنضويين تحت لوائها حول الوجود الوطنيِّ الذي يقومون بتحديده لذواتهم. ومن هنا، فإنَّه من الممكن للانتماء الوطني، واستناداً إلى ما يقوم عليه من وحدة، أن يتمظهر في تنوّعات معيشيّة واجتماعيَّة وفكرّية معيّنة، تنطلق من أساسيّة هذه الوحدة. ولذا، يمكن القول إنَّه لا يمكن للتنوّع أن ينفي الوحدة، بل يمكن له أن يكون عنصر قوّة وتعزيز لها؛ في حين إن الاختلاف ينفي الوحدة ويعمل على تفتيتها.

أما الثَّقافة، وإن تعدّدت محاولات تعريفها، وتنوّعت، بل واختلفت، فلن تستطيع أن تخرج عن كونها سعي من قبل النَّاس، أفراداً أو جماعات، لتحقيق تفاعل أو تفاهم أو تصالح أو حتَّى تمايز لهم مع البيئة المحيطة بهم. وإذا ما كان لسمة الإيجابيّة أن ترافق هذا التصالح أو ذاك التفاهم أو ذلك التَّمايز، ضمن مستويات متأرجحة، فإنَّها إذا ما فارقت التفاعل كانت معياراً على سلبيّة الوجود الثَّقافي، وكانت قائداً لاندحار وجودها الجمعي والمجتمعي في آن. ولذا، فإن الثَّقافة الحيّة والقادرة على الاستمرار ومواجهة التحدّيات، هي الثَّقافة التي يتحلّى ناسها بالقدرة على التَّفاعل الإيجابي مع الموضوع الذي يمارسون ثقافتهم عبره أو تفاعلهم الاجتماعيّ والمجتمعيّ من خلاله. ومن هنا، يمكن الوصول إلى انَّه لن يمكن للتنوّع الثَّقافي إلّا أن يكون خادماً للوحدة المجتمعيّة؛ وتالياً للوحدة الوطنيّة، التي لا تجد في الوحدة المجتمعيّة إلّا نواة أساساً لتشكّل وجودها وتحققّ فاعليّتها.

انطلاقا مِمَّا سبق، يمكن الحديث في موضوع التنوّع الثَّقافي ووحدة الانتماء الوطني في لبنان؛ وأوّل ما يمكن طرحه من أسئلة، ههنا، يتجلّى في سؤال مفاده «هل أنَّ ما في لبنان، على مستوى الوجود الثَّقافي تنوّع أم إختلاف؟». ولعلَّ الوصول إلى جواب واضح وصريح في هذا المجال ينبثق من تعرّف على الأصول الثَّقافيَّة الفاعلة حالياً في لبنان، أي الأصول التي ينبثق منها وجود اللبنانيّين. 

قد يكون من المتعذّر فعلاً، أن يجد المرء اختلافات أساسٍ أو حقيقيّة، أو عميقةٍ بين اللبنانيّين على المستوى الأناسي أو ما يمكن أن يعرف بالأنثروبولوجي. فاللبنانيون على تعدّد مناطقهم وتنوعها، يكادون لا يختلفون في الأساس من عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعيَّة، التُّراثي منها والمعاصر على حد سواء. صحيح أنَّ ثمّة تمايزاً ما في ممارسة هذه العادات والتَّقاليد بين منطقة لبنانيّة أو أخرى، أو طائفة من اللبنانيّين أو أخرى، أو بين طبقة منهم وأخرى؛ بيد أن هذا التَّمايز، على بعض ما يمكن أن يظهر فيه، ولو نادراً من فروقات حادةِ أحياناً، ما برح من باب التَّنويعات على الأصل أو انطلاقا من الأصل، وليس من باب الفروقات النَّاجمة عن اختلافات في الأصل أو الجوهر. ومن هنا، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن عادات الولادة والزَّواج والوفاة وكذلك عادات الخصام والعتاب والغضب وسواها ومفاهيمها تبقى كلُّها واحدة بين اللبنانيّين، وإن تنوّعت في تراتب تطبيقها أو مظاهر تنفيذها أو ألفاظها ومحطَّات التَّعبير عنها؛ ولذا، فلا يمكن لها أن تشكّل حداً خلافياً يؤدّي بإحداها إلى الانفصال عن جذور أخرى. 

أما على المستوى الفكري، فاللبنانيّون جميعاً، وعلى إختلاف مناطقهم وطوائفهم، لم يستطيعوا أن يكوّنوا نهضتهم الفكريّة وقيمهم المعرفيّة ونتاجاتهم العلميّة إلا بناءً على ممارسة انفتاحيه، قاموا بها، على ما أحاط وما برح يحيط بهم من تيارات فكريّة وعلميّة وثقافية إنسانيّة قديمة ومعاصرة على حد سواء. وهم لم يتمكنوا من اثبات نجاحهم وتميّزهم المشهود له في المجالات الفكريّة، إلا عبر ما مارسوه من انفتاح ثقافي وقابليّة ذهنيّة معرفيّة على المعاصرة ومواكبة التقدم الحاصل. وفي هذا لا يختلف لبناني عن آخر، بل إن جلّى ما يمتاز به واحدهم على الآخر يكمن في تنوّع تفاعله عبر هذا الانفتاح مع شؤون الفكر وموضوعاته وليس مع أساسيّات هذا الفكر. ومن هنا، فلئن تنوعت المدارس الفكريّة في لبنان، فإن كل ما تعرض له لن يعدو كونه شهادة على مقدرة كامنة في ذوات اللبنانيّين على العطاء الفكري من خلال القابلية الذهنية والحياتيّة المجتمعيّة على الانفتاح على الثقافات العالميّة والمعارف المعاصرة، وفي النهاية لا يمكن لهذا النتاج الفكري، على ما فيه من تنوّع، إلا أن يكون نتاجاً فكرياً مميزاً بــ «لمسة لبنانيّة».

ثمّة أساس موضوعيّ أثبت أهميته على نطاق لبنان برمته: إنَّه المصلحة اللبنانيّة المشتركة، وهي المصلحة التي لا يمكن لها أن تكون إلا بوجود بوطقة واحدة تحقِّق اللقاء الوطني الموحَّد للبنانيّين والموحِّد لهم. وهذه المصلحة اللبنانيّة المشتركة لم تأت لا من فراغ، ولا من رؤيّة ذاتية أو حلم شاعري؛ بقدر ما تطورت ونمت نتيجة تفاعل فيما بينها. لقد حصل هذا بعد عقود طويلة من ممارسات متعددة لمفاهيم تجريبيّة أو اجتهاديّة متنوعة في حقل العمل الوطني أو تحقيق ما يمكن أن يشكل الوجود الوطني في لبنان؛ كما حصل إثر تدخلات إقليمية وخارجيّة كثيرة، وإثر تحالفات أو لقاءات متنوعة ومتعددة بل ومتناقضة، في أحيان كثيرة، بين كثير من الجماعات اللبنانيّة وقوى خارجية وبعد مبادرات نظمت من قبل جهات داخلية محضة، كما قامت نتيجة ترتيبات تنظيمات من قبل قوى خارجيّة.

ونتيجة لكل هذه الأمور، فقد توصل اللبنانيّون إلى ضرورة بقاء لبنان، وأساسية المحافظة على كيانه ووجوده ومزاياه، واهمية السعي إلى تحقيق مواطنيّة واحدة واضحة موحّدة تجمع أبنائه فيما بينهم. ثم كانت الترجمة العمليّة والفعليّة لهذا عبر موافقة اللبنانيّين على ما يمكن أن يكون حداً أدنى من التلاقي تجلّى فيما عرف بــــ»وثيقة الوفاق الوطني»، ثم تأكد بتمسك اللبنانيين بهذه الوثيقة، رغم ما أحاط ويحيط ببعض نقاطها وموادها وجزئياتها وتطبيقاتها من اعتراضات كثيرة تكاد لا تحصى؛ ولا تتفاضل في الإشارة إلى هذه النقاط والمواد والجزئيات والتطبيقات أو انتقادها أو العمل على تغييرها جهة من اللبنانيّين على أخرى. لكن، ومن جهة أخرى فقد أثبت الواقع المعيشي والحياتي إنهما اللذان فرضا هذا الأمر حقاً؛ الأمر الذي يؤكد الخلاصة العملية، في هذا المجال، والتي لا يمكن لها أن تكون سوى أساسية اللقاء الوطني اللبناني، بين اللبنانيّين جميعاً، وأهميته.

إن هذا الوعي لفاعلية التنوع الثَّقافي في لبنان في تعميق وحدة الانتماء الوطني، وتعزيزها يفرض عدداً من الممارسات التي عليها أن ترعاه وتساهم في تنميته ضمن المسار الصحيح، فلا يتحول التنوّع إلى إختلاف؛ ولا يتحول الالتقاء حول الانتماء الوطني من ممارسة وحدة إلى تأزيم يوجب الفرقة والتشتت والاضمحلال. فالتحديات الحضاريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ناهيك بالاقتصادية تحيط باللبنانيّين في أي منطقة كانوا وإلى أي مذهب انتموا وفي أي واحد من التيارات الاجتماعية انجرفوا أو اختاروا أن يكونوا تواجه اللبنانيّين جميعاً وتدعوهم إلى وعي وحدة الانتماء الوطني عبر ما لديهم من غنى في التنوع الثَّقافي. ولذلك، فقد يكون من المجدي، إن لم يكن من الضروري:

1- التعامل مع فاعليّات التنوع الثَّقافي في لبنان، باعتبارها أساساً في تشكل الوحدة الوطنيّة؛ وعدم الخلط بينما يمكن أن يكون تنوعاً ثقافياً، وما يمكن أن يكون اختلافاً ثقافياً ضمن البناء الوطني الواحد؛ ثم الاختلاف الثَّقافي، مع الآخر، خارج البوطقة الوطنيّة، فهذا يدخل ضمن ما يمكن أن يعرف بالبعد الكوني للإنسانيّة أو الكزمويوليتيّة وليس مجاله أن يبحث في هذا المقام. 

2- أساسية قيام أحزاب وطنية تساهم في إغناء الوحدة الوطنية ضمن رؤى تنوع، وتعمل على اقتلاع بذور التفتت والاضمحلال الوطنيّين من خلال ممارسة الإيمان بمبدأ الوحدة الوطنيّة الجامعة. 

3- حض وسائل الإعلام والتربيّة والتوجيه، في المجتمع اللبناني، على فكرة تقبل الآخر الوطني؛ والسعي إلى التعرف الإيجابي عليه، والدخول معه في حوار ضمن المفاهيم الوطنية الجامعة.

4- الاصرار على أن تكون المدرسة الرسميّة والجامعة اللبنانيّة بدور فاعل وإيجابي ونموذجه ورياديّ في تطبيق التوصية السابقة، ونشرها بين اللبنانيّين جميعاً.


 (رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)