بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 تموز 2020 12:00ص الرَّائدُ العصاميُّ الشَّيخ أحمد عَبَّاس الأزهريّ - 5 مِنَ التَّدريسِ إلى بَيعِ الخُضار

حكايةٌ عن مرحلةٍ وأجيالٍ وليست أبداً حكايةً عن شخصٍ

المعلِّم بطرس البستاني المعلِّم بطرس البستاني
حجم الخط
وَصَلَ «الشَّيخ أَحمَد عبَّاس الأزهري»، على الباخِرَةِ «قاصِد كَريم» المُنْطَلقة من ثغر «الإسكندريَّة»، إلى مدينته «بيروت»، سنة 1874؛ وكان قد بلغ حينها الحاديةَ والعشرين من سنيِّ العُمر. وكان أن دعاه، فور وصولِه، المُعَلِّم «بُطرس البُستاني» (1819-1883) إلى أن يكون مدرِّساً لمبادئ الدِّين الإسلاميِّ وبعضِ علومه، للمسلمين من تلاميذ «المدرسة الوطنيَّة»؛ التي كان قد سبق للمعلِّم «بطرس البُستاني» أنْ أفتتح أعمالها في «بيروت»، قبل عشر سنواتٍ، سنة 1863م. وفي منطقة «زقاق البلاط» تحديداً.

مثَّلت «المدرسة الوطنيَّة» ظاهرةً أساساً في الحياة الوطنِيَّةِ والتَّربويَّة والثقافِيَّة والاجتماعِيَّةِ في بيروت، خاصَّةً، والمناطق المحيطةِ بها إنطلاقاً من «جبل لبنان»، ووصولاً حتَّى مدينةِ «البصرة» في العراق. ويُذْكَرُ عن المعلِّم «بطرس البُستاني» أنَّهُ نشرَ في جريدة «الجنان»، إعلاناً وردَ فيهِ قَوْلُه «قرَّرنا اِنْشاءَ المدرسة الوطنيَّة على أساسٍ وطنيٍّ لا طائفيٍّ»، وإنَّ «أبوابها كانت وستظلُّ مفتوحةً أمامَ تلامذةٍ مِن جميعِ الطَّوائِفِ والمِلَلِ والأَجْناسِ؛ مِن دونِ أنْ تَتَعَرَّضَ لِمذاهِبِهِم الخُصوصِيَّةِ أو تُجْبِرُهُم باتِّباعِ غَيْرِ مَذْهَبِ والِدِيهِم، مَع اِعْطاءِ الرُّخْصَةِ التَّامَّةِ لَهُم في اِجْراءِ فُروضِ دِيانَاتِهِم». (نجاريان: النَّهضة القوميَّة، الفصل الثالث). وانمازَت «المدرسةُ الوطنِيَّةُ»، وكما يُشيرُ اسُمها تحديداً، وكما دلَّت عليهِ وقائعُ الأمورِ فيها، بأداءِ رسالةٍ وطنيَّة عربيَّة علمانيَّة، بديلاً مِنَ التَّبشيرِ المَذهبيِّ الدِّينيِّ، الذي كانت تعتمده، في ذلك الحِينِ، عِدَّةُ مدارسَ تابعةٍ لِلإرساليَّات التَّبشيريَّةِ؛ كما كانت أوَّل مدرسةٍ وطنيَّةٍ في البلد؛ تُعنى بتدريس اللُّغات العربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة، وتسعى إلى تركيز خاصٍّ على محبَّة الإنسان والارتباط الإيجابيِّ بالأوطان، وقد توافَدَ إليها الطلاَّب مِن الطَّوائف الدِّينيَّة كافَّة، ومِن عديدٍ مِن المناطقِ في لبنان والبلدانِ المجاوِرَة، وضمَّت في رحابِها أساتذة من المسلمين والمسيحيِّين، على حدٍّ سواء.

يمكن القَوْلَ إنَّ التحاقَ الشَّيخ الشَّاب «أحمد عبَّاس الأزهري»، بالهيئةِ التَّعليميَّة في هذه المدرسةِ، قدَّم لهُ شخصيَّاً، ولمنطلقاتِ فِكْرِهِ الوَطَنيِّ، وللجانب العروبيِّ من هذا الفكر بصورة خاصَّة، كما سيظهرُ لا حقاً، فضلاً عن منطقِ رؤيتهِ التَّربويَّة، فرصة طيِّبةً للعملِ في أجواء دينيَّةٍ ومعرِفِيَّةٍ وثقافِيَّةٍ ووطنِيَّةٍ بعيدةٍ عن التَّعصُّب الأعمى والتَّحيُّز الجاهِل.

واقع الحال، لم يكن الشَّيخ «أحمد»، المُسلِمَ الوحيد، بَيْنَ أعضاءِ الهَيْئَةِ التَّدريسيَّة في هذه المدرسة، على الإطلاق؛ فقد كان، أستاذُه الشَّيخ «يوسفُ الأسير»، وقد تلمَذَ عليهِ الشَّيخ «أحمَد»، في المنطِق والآداب، سنة 1870، إبَّان تمضية إجازتِهِ الصَّيفيَّة من «الأزهر» في بيروت؛ مِنْ كِبار الأساتذةِ فيها؛ ولعلَّ الشَّيخَ «الأسير»، هو مَنْ زكَّا الشَّيخ الشَّاب، خرِّيج «الأَزْهَر»، «أحمَد عبَّاس الأَزهريِّ»، للتَّدريسِ في هذه المدرسةِ، لدى مؤسِّسِها المعلِّم «بطرس البُستاني».

لئن ظَنَّ الشَّيخ الشَّاب «أحمد عبَّاس الأَزْهَري»، أنَّه بدأ بتحقيقِ طموحِهِ العِلميِّ والتَّربويِّ، بقَدَمٍ ثابِتَةٍ وخُطُواتٍ واثِقَةٍ، يوم التحقَ بالهيئة التَّدريسيَّة في «المدرسة الوطنِيَّة»، فإنَّه ما لبثَ أن وَجَدَ نفسَهُ، وبعد أقلِّ من ثلاث سنواتٍ، خارِج صفوف التَّدريسِ بل وبعيداً عن المدرسةِ ومن فيها من زملاء التَّدريس وأصدقاء العمل. لقد حصل أنَّ المعلِم «بطرس البستاني» اضطُرّ، جرَّاء ما كان يُخْشى من انتشارٍ لوباء «الهواء الأصفر»، وقتذاكَ من سنة 1877، إلى إيقاف التَّدريس، وتجميد جميعِ نشاطاتِ المدرسةِ، وصَرْفِ جميعِ أساتِذَتِها والعامِلِين فيها مِنَ الخدْمةِ، والانتهاءِ مِن كلِّ هذا إلى إقفال أبواب المدرسةِ. وهكذا يَجِدُ «الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري» نفسه، وهو في الرَّابعةِ والعِشرين من سِنِيِّ عُمْرِهِ، بلا وظيفةٍ يعيشُ فيها ما اكتسبه من عِلْمٍ ومعرفة ويمارس عبرها ما آمن به من وجود تربوي ووطنيِّ؛ ويعتاشُ، مع عائلتِهِ، مِن المُرَتَّبِ الماليِّ الذي كان يتقاضاه من إدارَتِها. ويا لها من داهِيَة زَلْزَلَت كيانَ الشَّاب الطَّموح، بل يا لها من نكبةٍ حارقةٍ للقلبِ ومقلقةٍ للكيان قد حلَّت في دنياه التي تحوَّلَت عن إشراقها البهيجِ إلى ظُلْمَةٍ دَكْناءٍ، ويا لكلِّ هذا من ابتلاءٍ قاسٍ مُرْعِبٍ على الشَّيخ «أحمد» أن يُواجِهُ، وأن يتحدَّاه، وأن يَنْجَح في تَحَدِّيه.

قد يكونُ «الشَّيخ أحمَد عبَّاس الأزهري» استرجَعَ في بالِهِ محطَّات المواجهة والتَّحدِّي التي عرفها منذ طفولته؛ ولعلَّهُ تذكَّر كثيراً من أمورها وناسها وما قدَّموه له، وكيف كان له أن يواجه بتقدماتهم ودعمهم الصِّعاب. ولربما خاطبَ الشَّيخ «أحمَد» نفسه، في هذا الاسترجاع للذكريات، بأنَّه كان في ما مضى طفلاً وفتىً وطلعةً، قد يحَفِّزَ الآخرين على تشجيعِهِ ومساندتِه؛ فهل سيبقى يطلُب المساعدة، وهو اليوم في الرابعة والعشرين من العمر؟ وقد يكونُ الشَّيخ «أحمد» عاين،َ هَهُنا مخاضاً عَسيراً شديدَ الإيلامِ؛ بيدَ أنَّه كانَ مخاضاً مَهِيباً قاد إلى رؤيَةٍ ألْمَعِيَّةٍ في مواجهَةِ التَّحدِّي، ومقارعتهِ الهدمَ بالوجودِ والإلغاء بالبقاءِ والمنعَ بالاستمرارِ. رأى الشَّيخ «أحمَد»، أن لا مجال له أو ربما لسواهُ، للعمل في التَّدريس، طالما أن وباء «الهواء الأصفر» بات يهدِّد بإقفال المدارِس عن بكرَةِ أبيها. ولعلَّ الشَّيخَ اكتنَه، في هذا الرَّأي، أنَّ لا مجال، بات مفتوحاً له، للعملِ بمعارِفِه التَّدريسيَّة، في مثل هذه الأحوال، ولرُبَّمَا أدركَ بوضوح عَمَلِيٍّ وكُلِيٍّ أنْ لا مالَ لديهِ، أو يُمْكِنْ أنْ يَقْبَلَ بِهِ صدَقَةً من الآخرينَ، لِسَدِّ رَمَقِهِ ورَمَقِ مَنْ هُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُم مِنْ عائِلَتِهِ؛ ولعلَّهُ انكشف له، في خضمِ ما كان يراه أو يرى فيهِ من أمورٍ، أنَّ لديهِ قُدٌراتٍ عقليَّة مُعينةٍ لهُ على تفكير سويٍّ، كما لديهِ همَّةً ونشاطاً وقدرة طيِّبَةً على العَمَل، وأنَّ له، قبل كُلِّ هذا وبعدهُ، ربَّاً يَعينَهُ على تجاوزِ هذا البلاء. كانت هذه لحظةَ انبِلاجِ فجر القرار، الذي أشرق على حياة الشَّيخ «أحمد» من نور التَّوكُّلِ على اللهِ، ومِن عزمِ الااعتمادِ على الذَّات، ومِن شَجاعَةِ الإيمانِ بالحقِّ بالعملِ الشَّريفِ، أيَّاً كان هذا العمل.

لقد كان للشَّيخ «الشَّاب، أحمد عبَّاس الأزهري»، خرِّيج «الأزهر» وأستاذ العلوم الإسلاميَّةِ في «المدرسة الوطنيَّةِ»، والتِّلميذ النَّجيب للكبار الذين منهم الشيخ «حسن البنَّا» والشَّيخ «إبراهيم الأحدب» و الشيخ «عبد الله خالد» والشَّاعر «عمر الأنسي» والشَّيخ «يوسف الأسير»؛ ومن نال ثقة الأمير «محمَّد أمين أرسلان» والحاج «حسين بيهم» والسيِّد «سعد الله حلابو»، أن يمضي العَزمَ على البدء بتوجُّه جديد في حياتِه، بل لعلَّه التَّوجُّهَ الأكثر غرابةً عمَّا كانَ قد أَعَدَّ لهُ نفسهُ من سعيٍّ في حقولِ العغِلم وممارسَة التَّدريسِ وعَيْشِ الحياةِ الثَّقافِيَّة. فَرَضَ الشَّيخ «أحمد» على نفسِهِ أن يكون، في هذه المرحلةِ، مجرَّدَ بائعٍ للخُضار؛ وسرعان ما هَيَّأ الشَّيخُ الأزهريُّ مكاناً لهُ في بيروت، جعلَ مِنْهُ دُكاناً لبيعِ الخضارِ؛ وصار يشتري ما يمكنه من سوقِ الجُمْلَةِ، ويبيعُ منهُ في دُكَّانِهِ بالمُفَرَّق؛ ولسانُ حالِهِ يَذْكُرُ، سِرَّاً وعَلانِيَةً، ما كانَ قَوْلَ الإمام «الشَّافعي» (767-820):

تَوَكَّلْتُ فِي رِزْقِــــي عَلَى اللهِ خَالِقِـي

وَأَيْقَنْتُ أَنَّ اللهَ لا شَكَّ رَازِقِــــــي



وإلى اللِّقاءِ مع الحلقةِ السَّادسة: إِدَارةُ مَدارسٍ وتأسيسُ مَكْتَبَةٍ

------------------

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي