بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 آب 2020 12:00ص الرّائد العصاميّ الشّيخ أحمد عبّاس الأزهري (1853-1926) (8)

حكاية عن مرحلة وأجيالٍ وليست أبداً حكاية عن شخص

مبنى المدرسة السُّلطانيَّة مبنى المدرسة السُّلطانيَّة
حجم الخط
باشَرَ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، سنة 1884، مهامه في النَّظارة العامَّة لـ «المدرسة السُّلطانيَّة» في بيروت؛ وكانَ، حِينَذاك، في الحاديةِ والثَّلاثين مِن العُمر. كانَ الشَّيخُ «أحمد» يعيشُ هناءةَ أنَّ مَقرَّ عمله صار، هذه المرَّة، في «بيروت»، بعدَ أن كانَ مِن قَبْلُ في: «عْبَيه»؛ و«بيروت»، كما لا يخفى، هي منذ البدءِ مدينةُ سَكَنِهِ ومُسْتَقَرُّ أهْلِهِ وذَويهِ. ولقد وجد الشَّيخ «أحمد» أنَّ العيشَ في «بيروت»، فضلاً عن أنَّها مَقَرٌّ مُناسِبٌ لتأمينِ ما قد يَتَطَلَّبُه عَملُهُ في المدرسة «السُّلطانِيَّةِ» مِنْ علاقاتٍ اجتماعيَّةٍ واهتماماتٍ إداريَّة ومتابعاتٍ تربويَّةٍ؛ فإنَّها، بِحُكْمِ مَوْقِعِها العام، المدينةُ التي ستُمَكِّنُهُ من متابعةِ ما قد يقودهُ إِلَيْهِ طُمُوحه وترسُمُهُ له سَعةُ فِكْرَهِ وتقودُه في دروبهِ رحابة ثقافتهِ، مِن لقاءاتٍ فكريَّة ووطنِيَّةٍ؛ فضلاً عمَّا كان يجدهُ في هذا العملِ من توافقٍ تامٍّ مع معارفهِ العلميَّة وتوجُّهاتِهِ الثَّقافيَّةِ والوطنِيَّة.

لعلَّ الشَّيخ «أحمد» عاش فرحةَ الاستقرارِ هذه المرَّة، برغدٍ وهناءٍ؛ ولا يُسْتَبْعَدُ، أبداً، أنَّ الشَّيخَ قد يكون بدأ يتذوَّقُ، مع هذه الفرحةِ، سعادةَ الأمانِ من غوائلِ الدَّهرِ؛ التي طالما كشَّرت عن أنيابها في وجهه، والتي لم يرتح ولو لحظةً في حياته من مقارعتِها بكلِّ طاقاتهِ، والكَدِّ الدَّؤوبِ في مساعي تذليل ما كانت تثيره مِن صُّعوبات، ورَدْمٍ لا يهدأ لما تفاجئه به من مهاوٍ، والاستمرِ المُكِدِّ في وضعِ المداميكِ الصَّالحةِ لحياةٍ مثمرة يبتغي تحقيقها.

لم يَدُرْ ببالِ الشَّيح «أحمد»، آنئذٍ، أنَّ ما كان يحصل قبل سنتين، وتحديداً منذ سنة 1882، في مِصر، الغالية على قلبه، لجهة أصوله العائليَّة، ولجهة دراسته في أزهرها، سيكون مجالَ تأثير كبير على مسيرته، وسيترك بصماتٍ واضحةٍ ضمن محطَّات رحلة عمره ومعارج توجُّهات فكره وسلوكه وطموحه. ولم يخطر على بال الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، أن ثمَّة «أزهريَّاً» في مصر، يكبره بأربع سنوات فقط وتخرَّج في «الأزهر» قبله بأربع سنوات، سيكون له، هو الآخر، أن يترك بصماتٍ جليَّةٍ لا عليهِ وحده، بل على جيلٍ، وربما أجيالٍ، مِن أبناء مِصر وبيروت، وعديد من بلدان العرب والمسلمين.

قامت «الثَّورة العُرابِيَّةُ» في مصر، سنة 1882؛ بقيادة «أحمد عُرابي» (1841-1911)، ضدَّ «الخِديوي تَوفيق» (1852-1892) ومقارعةً للتَّدَخُّلِ الأجنبيِّ في شؤونِ البلاد. وكان الشَّيخ الأزهريّ «محمد عَبْدُه» (1849-1905)، وهو مِن كِبارِ دعاة التَّجديد والإصلاح الإسلاميِّ، خلال الرِّبع الأخير من القرن التَّاسع عشر، من مؤيِّديها؛ فتمَّ القبض عليه من قبل السُّلطة الخديويَّة، وحُكم عليه، تالِياً، سنة 1882، بالنَّفي مِن مِصر لمدَّة ثلاث سنوات (فاتنة شاكر: الإمام محمد عَبْدُه)، انتقل الشَّيخ «محَّمد عَبْدُه» إلى مدينة «بيروت»، فأقام فيها زهاء سنة؛ ثمَّ كان له أن يُسافِر إلى العاصمة الفرنسيَّة «باريس»، حيث عمل مع، أستاذه وصديقه، «جمال الدِّين الإفغاني» (1838-1897) على إصدار جريدة «العُروة الوُثقى»، وقد كانت منبراً يصدحُ ناسهُ بالدَّعوة إلى وحدة الأمَّة الإسلاميَّة. ويبدو أنَّ ثمَّة ما طرأ من أمورٍ، فارقَ إثرها الشَّيخ «محمَّد عبْدُه»، السَّيِّد «جمال الدِّين الأفغاني»؛ فغادر الشَّيخُ «باريس»، آخر سنة 1884، واتجَّهَ إلى «تونس»، لكنَّه لم يستقر فيها، وعاد إلى الإقامةِ في «بيروت»، سنة 1885.

رجع الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه» إلى العَيْشِ، مرَّة أُخرى، بين أصدقائه ومؤيِّديه، في «بيروت»؛ وانهمكَ، في هذه المرحلة، بالانكبابِ على وضعِ عددٍ من مؤلَّفاتِه؛ كما نشُطَ في إقامة حلقاتِ تدريس وتوجيه في بعض مساجد المدينة، التي أحبَّتهُ. ولقد التفَّ كثيرٌ من ناس «بيروت»، وأهل المعرفة من أبنائها حول الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه»؛ يقبسون من عِلْمِه الغَزيرِ ويَنْهلون مِن أفكاره الإصلاحيَّة.

مِنَ المُسْتَبعِدِ، ههنا، ألاَّ يكون الشيخ «أحمد عبَّاس الأَزهري»، من بين هؤلاء؛ وكيف لا، والشَّيخ «أَحمد» يشترك مع الشيخ «عَبْدُه» في أن كلاهما تخرَّجَ في «الأزهرِ» في مصر، وأن كلاهما يشتغلان بالتَّربيةِ والمعرفة، وكلُّ واحدٍ منهما مهتمٌّ بالإصلاح الاجتماعيِّ والثَّقافيِّ لبيئته وناسها. ووفاقاً لما يرويهِ الأستاذ «عبد الباسط فتحُ الله»، مُحَدِّثاً عن تلمذتِهِ على الشيَّخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، فإنَّ الشيَّخ «أحمد» كان، في «المدرسة السَّلطانيَّة» «أوَّل من (شَنَّفَ) آذاننا، وشغل أذهاننا بهذه الكلمات الذَّهبية: حُبُّ الوطن، الغَيرةُ على الأمَّة، والاستعداد للمستقبل، المجدُ، النُّهوض، الاعتماد على النَّفس، وإلى أمثالها من الفرائد الكريمة التي كان ينسجُ منها خُطَبَهُ، ومواعظه، ويشعل بنارها أفئدة النَّشءِ الذي كان يُرَبِّيهِ، ويعدُّه؛ لخدمة ملَّته وبلاده». وهكذا، فلم يلبث أن انتقل الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه» سنة 1886، إلى التَّدريس في «المدرسة السُّلطانيَّة» في بيروت؛ وغنيٌّ عن القولِ، ههنا، إنَّ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأَزهري»، كان هو من يتولَّى شؤون النَّظارةِ، أو الإدارةِ التَّنفيذيَّةِ، في هذه المدرسةِ الكُبرى.

اشتُهِرَ عن الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه»، إبَّان عمله في إلقاء الدُّرورس في «المدرسة السُّلطانية»، ما ساهم بهِ من ارتقاءٍ بمناهجها وتعميقٍ لمفاهيم العملِ فيها وتجديدٍ لطُرقِ التَّدريس المتَّبعة في رحابِها. وكان للشَّيخِ «مُحَمَّد عَبْدُه»، كذلك، أن وَضَعَ، في هذه المرحلةِ، بعضَ مقالاتٍ جرى نشرُها في جريدة «ثمرات الفنون»، لـ «عبد القادر قبَّاني» (1855-1935)؛ كما اشتغل بالعمل على شَرْحِهِ الشَّهير لـ «نهج البلاغة» للإمام «عليّ بن أبي طالب»، و«مقامات» «بديع الزَّمان الهَمَذاني». وكان للشَّيخ «مُحَمَّد عبده»، من جهة أخرى، أن يتزوَّج في بيروت، في هذه المرحلة من عيشِهِ، بعد أن توفيت زَوْجُهُ الأولى؛ (نصرة، الفلسفة النَّسويَّة في فكر الإمام محمد عبده).

ظلَّ الشيخ «محمَّد عبدُه»، مقيماً في  بيروت حتَّى قُيِّضَ له، أن يرجعَ إلى مِصر، سنة 1889، بوساطة ثنائيَّة، مع القنصل البريطاني العام لمصر، والحاكم الفعليّ فيها، «اللُّورد كرومر» (1841-1917). قام بهذه الوساطة كلُّ من الزَّعيم المصري «سعد باشا زغلول» (1859-1927)، الذي كان سالِفاً، من طلبة الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه»، والأميرة نازلي فاضل (1853-1913)، وقد كانت من مناصري ثورة «أحمد عُرابي». وبالفعل، فقد أبلغَ اللُّورد «كرومر» إلى «الخديوي توفيق» موافقتهُ على وَقْفِ حُكْمِ نَفْيِ «الإمام»؛ فما كان من الخديوي، إلاَّ أن أصدر أمرَ العفو  عن الإمام «محمَّد عَبْدُه»؛ شريطة أنْ يُوْقِفَ «الإمام» جميعَ نشاطاته السِّياسيَّة. ( العقاد، الإمام محمد عبده).

كانت «المدرسة السُّلطانيَّة»، كما هو معروف، مُلْحَقَةً في إدارتِها لـ «شُعبة المعارف»، التَّابعة لسلطة والي بيروت؛ ويبدو أنَّ ثمَّة أموراً قد أزعجت القيِّمين على الإدارةِ في مكاتب الولاية، جرَّاء ما كان يقوم به الشَّيخ «محمَّد عبده» من نشاطات؛ وخاصَّة لِمَا كان ينادي به من موضوعات الحريَّة، بشكل عامٍّ، وما يدعو إليه من أمورِ الإصلاح بشكلٍّ خاصٍّ؛ ولذا، فقد صدر الأمر الرَّسمي، سنة 1886، بكفِّ الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه» عن العمل في هذه المدرسة. وهنا تثور ثائرة الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، في وجه هذا القرار؛ وسرعان ما يستقيل، احتجاجاً، من جميع مهامه في «المدرسة السًّلطانيَّة».

كانت الحياة تبسم برحابةٍ وفرحٍ للشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري»، في هذا الحين، وقد بلغ الثَّالثة والثَّلاثين مِن سِنيِّ عمره؛ وكان له في ما أحرزه، من نجاحٍ باهرٍ في مجالاتِ الإدارة التَّعليمية والتَّربويَّة، ما يمهِّد له صَوْغَ مستقبلٍ واعدٍ في الميادينِ المدرسيَّةِ والتَّوجُّهاتِ التَّعليميَّةِ؛ غير أنَّ إصراره على معارضةِ القرار الحكوميِّ القاضي ِبِمَنْعِ الشَّيخ «محمَّد عبده» من التَّدريس في «المدرسة السُّلطانيَّة»، وَضَعَهُ، مرَّةً جديدةً، أمام تحدِّي العقبات ومواجهات المصاعب، انتصاراً لحقٍّ اعتقده وغَلَبةً لرأيٍ آمن به. لم يكن أمام الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، في هذهِ الحال، سوى أن يُقْدِمُ، وهو في أوج تَنَعُّمِهِ بنجاحاته الإداريَّة والتَّربويَّة والتَّعليميَّة، سنة 1886، على الاستقالةِ من جميع مهامهِ في «المدرسة السُّلطانيَّة»؛ احتجاجاً على ما قامت به «شُعبة المعارف»، ومِن ورائها الإدارة الحكوميَّة لولاية بيروت، مِنْ تَعَسُّفٍ إداريٍّ وظُلمٍ أدبيٍّ واضطهادٍ شخصيٍّ وإجحافٍ ثقافيٍّ وجَوْرٍ علميٍّ، بحقٍّ عالِم ومُثَقَّفٍ ومًصلِحٍ اجتماعيٍّ هو الشَّيخ «محمَّد عَبْدُه».

ينكفئُ الشَّيخ «أحمد عبَّاس الأزهري» عن الإدارة التَّربويَّة وعن ممارسة التَّعليم؛ بيد أنَّه يواجِه هذا التَّحدي بأن يبدأ، وهو في الرَّابعة والثَّلاثين من العمر، مجالاً جديداً من العمل؛ فيفتتح سنة 1887، في «بيروت» «المكتبة العثمانيَّة»؛ مؤسَّسةً ثقافيَّةً تجاريَّةً خاصَّةً، تُعنى ببيعِ الكُتُبِ ونَشْرِ ما يُمكنها مِن المؤلَّفات العلميَّة والأدبيَّة. 

استمرَّ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأزهري»، ناشِطاً في «المكتبة العثمانيَّة»، التي أسسها سنة 1887، فتمكَّن مِن النَّجاحِ في تحدِّيهِ لقمعِ الحريَّاتِ وانتصارهِ على اضطهادِ العُلماءِ ومواجهتهِ لظُلمِ المعرفةِ ومحاربيتهِ للإجحافِ بالحقوقِ الإنسانيَّة. يَذْكُرُ تلميذه وصديقه ومساعده، الأستاذ «عبد الباسط فتحُ الله»، في هذا المجال، أنَّ الشَّيخَ «الأزهريَّ» تمكَّن، عبر «المكتبة العثمانيَة»، التي أنشأها، وطيلة ثماني سنواتٍ متواليةٍ من العمل الدَّؤوب فيها، مِن «خِدمة العِلم وتحبيب المطالعة إلى كثيرٍ من النَّاس؛ وذلك بما كان ينتقي لهم مِن التَّآليفِ الحَسَنَةِ في كلِّ فرعٍ من الفروع». ويُضيف الأستاذ «فتح الله»، أنَّ هذه المؤسَّسة الثَّقافيَّة والمعرفيَّة، التي أنشأها الشَّيخ «الأزهري»،  لم تكن «لتغفل مُنْشِئها عن غرضه الأسمى مِن إصلاحِ النُّفوسِ بالوعظِ والإرشادِ والتَّربية والتَّعليم». فلقد استمرَّ الشَّيخ «أحمَد عبَّاس الأَزهريّ» في «إلقاء الدُّروس في المسجد (الجامع العُمَرِيّ)، وكان يرمي فيها إلى تهذيبِ الأخلاقِ التي إنَّما يكون المُسْلِمُ بها مُسْلِمًا بلِ الإنسانُ إنساناً»؛ ويَرى الأستاذ «فتح الله»، أنَّ الشَّيخ «سعى إلى تَفْقِيهِ عامَّة النَّاس في الدِّين، واجتهد في تنوير عقولها بمواعظ التَّاريخ الإسلاميِّ، ومناقب الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وصحابته الكرام رضي الله عنهم؛ وقد قصد لمثل هذه الغاية مِن الإصلاح الطَّريقة الشَّاذليَّة، وعمل جهده على ضبط أفكار مريديه من العامَّة بضابط الشَّرع وشحذ قرائح المعلمين منهم بآداب التَّصوُّف».

وإلى اللِّقاء مع الحلقة المقبلة: «الكليَّة العثمانيَّة»



--------------

* رئيس المركز الثقافي الإسلامي