بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 أيلول 2020 12:00ص الرَّمزي والشَّعري

رمز شعريّ لإحساس إنساني رمز شعريّ لإحساس إنساني
حجم الخط
«الرَّمزُ»، بحدِّ ذاته، وعلى سبيل المثال، طاقة كامنة بحاجة إلى من يفجرها ويعطيها الجمال الرحب لممارسة وجودها؛ «الرَّمز»، في هذا المجال، فِعْلُ «الشَّعرِي»!

قدرة «الرَّمز» على الاختصار والإيحاء، في آن، هي مصدر الشِّعريّ» فيه. أن تقول «لیلی»، في نصٍّ شِعْرِيٍّ، فأنت في مجالِ تجاوزِ الوجودِ الحرفيَّ للَّفظة/الاسم، إلى الوجودِ الشِّعريّ» فيها، أي إلى الطَّاقة الحياتيَّة والتُّراثيَّةِ والذَّاتيَّة الكامنة في هذا اللَّفظِ/الاسم. «لیلی»، ههنا، قد يعني «الحبيبة»، والحبيبة العربيَّة تحديداً، إذ «ليلى» هي الحبيبة العربيَّة الأكثر شهرة وانتشاراً في الوجودِ الحضاريِّ العربيِ. و«ليلى»، قد يعني، كذلك، «ابنة البادية»؛ بكلِّ ما في البادية من خصوصية عيش وعاطفة، إذ البادية هي منطلق وجودِ «ليلى» في الوجدان الثَّقافيِّ العربيِّ. و«ليلى»، مجرَّد مفتاح مفهوميٍّ قيميٍّ، قد يؤدِّي إلى مسالك كثيرة.

إذ يُذكر في النَّصِّ الأدبيِّ العربيِّ الاسم الرَّمز «لیلی»؛ فإنَّه يَغني الكلامَ بقدرةٍ على تقديم أبعادٍ كثيرةٍ، يبقى تحقيقها مرتبطاً بقدرة القارئِ أو مُسْتَقْبِلِ النَّصِّ على التفاعلِ معه. «لیلی»، ليس لفظاً معجمِيَّاً، بل هو وجودٌ شِعريٌّ، أو على الأقل، وعدٌ بالوجودِ «الشِّعريّ». تجاوزَ «الرَّمز»، في هذا المقام، حيويَّتهُ الإلماحيَّة، وتفوَّقَ على طاقته في الابتعاد عن التَّصريح إلى جوهرِ مُكْنَةٍ خاصَّةٍ بهِ في الوَعْدِ بـ «الشِّعرِيّ»! هنا إيَنْبَجِسُ الفرق الأساسُ بين «الرَّمز»، في بعُدِهِ الاختِصاريِّ الرِّياضيِّ، و«الرَّمزُ» في بُعده «الشِّعريّ الانفتاحيِّ».

«الرَّمزُ الشِّعريّ»، إذن، هو في استخدام ألفاظٍ/ كماتٍ/ إشاراتٍ ذات مُكْنَةٍ على انبجاسٍ للوعد بـ «الشِّعريّ» من جُوَّنِيَّاتِها؛ فهو، تاليَّاً، أكثر بكثير من أن يكون تعبيراً جامداً عن موضوعٍ تصعب الإشارة إليهِ مباشرةً أو علانيَّةً؛ بل أبعد من ذلك وأشدَّ عُمقاً نوعِيَّاً وغِنىً تكوينيَّاً؛ من «الرَّمز الرِّياضيِّ»، ذي الدَّلالةِ المحدَّدُةِ بمرجعيَّتِها المعجَمِيَّةِ التي تفترِضُ توافقاً عامَّاً عليها. «الرَّمزُ الشِّعريُّ»، غزيرُ العطاءِ وفسيحُ أرجاءِ الدَّلالة؛ و«الرَّمزُ الرِّياضيُّ»، محدَّد العطاءِ ومقنَّنُ الدّلالة.

لكن ليس استخدامُ «الرَّمز»، في وجودِهِ «الشِّعريّ»، بالأمر الهيِّن؛ إذ يرتَدُّ «الرَّمز»، بكل ما يحمله مِن طاقةِ شِّعريّة، إلى وجود نَثْرِيٍّ، إلى مَواتٍ؛ وذلك عند ما يسيء الأديبُ، أو المُرْسِلُ، استخدام هذه الطَّاقة؛ وكثيراً ما تكون هذه الإساءة، كما هو الحال في الزَّمنِ الرَّاهِن، عبر بعض نصوص أدبيَّة تسعى إلى صوغٍ لموضوعٍ في الوطنِيَّةِ أوالشَّهادة في مجالات التَّضحية والوفاء، والسَّير في رحاب مواجهة الأعداء جهاداً ونضالاً. قد يغشى بعض هذه النُّصوص ما قد يكون قتلاً لما يحمله «الرَّمزُ» من طاقةِ «الشِّعريِّ»؛ ويتحوَّل الأمرِ برمَّتهِ، عندها، إلى نثريٍّ يجرفُ الشِّعريَّ إلى هاوية الموت.

يعيش العرب فعل النضال والجهاد منذ سنوات طويلة. وعيشهم هذا أضحى فعل إيمان في حياتهم، فلكثرة ما تعرّض هذا الشعب للتحديات، أصبح النضال والجهاد موقعين حياتيين لا يمكن الاستغناء عنهما، وباتت الشهادة وسيلة بارزة من وسائل ممارسة وتحقيق الوجود. ومن هناء تفجرت في حياتهم اليومية كوكبة أسماء مواقف/ شهادات مارست النضال والجهاد وجودا ورؤية من خلال عمليات التضحية والاستشهاد. وهكذا قدّر لأسماء أشخاص أن تتحوّل إلى رموز، أي إلى «وعد بالشِّعريّ». لم يعد اسم الشهيد، أي شهيد يختاره الشاعر، مجرد رمز رياضي اختصاري لإنسان ولد في مكان محدد، وعاش في بيئة معينة، ثم مات في ظروف معروفة من قبل الآخرين. أصبح اسم هذا الشهيد، بفعل الشهادة التي مارس، وجودة شعرية، رمزا يعد دائما بالشِّعريّ. الشهيد، ههنا، قصيدة كاملة الوجود «الشِّعريّ»، وليقارن المرء، في هذا المجال، بين ذكره لاسم هذا الشهید «قبل فعل استشهاده، وبين ذكره لاسم هذا الشهيد، بعد استشهاده». الفرق واضح. والشهید، ما قبل الاستشهاد، مجرد اسم، مجرد رمز رياضي؛ إنه نثر، لا شعري فيه. والشهيد، بعد الاستشهاد، وبمجرد ذكر اسمه، هو فعل شعري؛ لأنه يقود المتلقي إلى التفكير في عوالم الاستشهاد وأبعاد الفعل الاستشهادي الذي عاشه هذا الشهيد، يتحوّل الشهيد من الاسم والشخص إلى فعل النضال، والمقاومة، وإلى كونه فعل وجود لفكرة، ولإيمان، ولشعب، ولأمة؛ وتظل كل احتمالات التحوّل مفتوحة! الشهيد، بحد ذاته، أصبح قصيدة.

لقد بات من تدخّل هذه الأمور الرائجة في هذه الأيام حشر اسم الشهيد «الرَّمز» القصائد والأعمال الأدبية. لا بأس، بل ضروري أن الأسماء الرموز في النص الأدبي؛ ضرورة ارتباط التاريخ بالواقع وضرورة انطلاق الرؤيا من الواقع. بيد أن شرط هذا الدخول أن يطوّر في «الوجود الشِّعريّ» لهذه الأسماء الرموز، لا أن يبقيها على ما هي فيه من شاعرية ذاتية. فإذا ما كانت القصيدة ستكتفي، مثلا، بترداد ذكر الاسم «الرَّمز» في تضاعيف أبياتها، من غير أن تساعد القارئ على فتح أبواب جديدة في الوجود الشِّعريّ لهذا الاسم «الرَّمز» ؛ فالقصيدة تضحي وجودة نثرية لا شعرية. أن يبدأ المرء من شعري واعد، فمعناه أنه يسعى إلى تجاوز البداية، الا أن يكون في أصدائها! المهم أن لا يتحول الاسم/ «الرَّمز» عن بُعده الشِّعريّ» إلى بُعده الإنشائي. عانى الشعر العربي المعاصر تجربة استعمال رمز السندباد. ظل السندباد، عند كثير من الشعراء، ذلك الرحالة البحري الذي يجوب الآفاق بحثا الكنوز والثروات والمغامرات. وظل هؤلاء الشعراء، عبر الاستعمال للاسم/ «الرَّمز»، عند حدود نثر شعرية رمز السندباد! بيد أن جماعة أخرى، حوّلت السندباد التراثي إلى سندباد آخر؛ إلى رحالة، ولكن في غير عوالم البحار. لقد حوّلته إلى باحث عن كنوز هي من غير اللالیء والجواهر المادية. السندباد، انطلق مع هؤلاء، من وجوده «الشِّعريّ» الأول إلى وجود شعري جديدا أصبح السندباد ذلك الإنسان المسافر المغامر الباحث عن عالم آخر فيه أبعاد ورؤى حضارية وفكرية وعاطفية جديدة، عالم قد يتمثل العالم الأساس الذي عاش فيه سندباد التراث، لكنه ليس إياه على الإطلاق. الأسماء الرموز، عامة، وأسماء الشهداء خاصة، باتت رموزة شعرية تضيء التاريخ وتنير زوايا الفعل الذي مضى. المطلوب تحويلها إلى منارات حياتية وشعرية للفعل الذي سيأتي!

---------------

* دكتوراه في النقد الأدبي 

من جامعة أكسفورد

(رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي)