بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 كانون الثاني 2023 12:00ص الشاعر د. خريستو نجم ومحاولاته نسيان الحبيبة

حجم الخط
ما استطعت الكتابة عن الشاعر الدكتور «خريستو نجم» الذي تأمّلته بعمق كثيراً وأنا على مقاعد الدراسة في الصف الأول ثانوي محاولة استكشافه، أترقّب كلامه بعد شرح عن قصيدة لأمروئ القيس أو لسواه.. فما كنت أهتم حقيقة الأمر لشعراء يتكلم عنهم مهما كانت أهميتهم عبر الزمن في الأدب والشعر، رغم أن كلامه كان يستقرّ في ذهني، وكأنه يحفره في عقلي ليحيا لسنين وسنين، فلا يمكن محوه بشتى الطرق، بل ما كنت أهتم له نهاية الدرس هو أن أسمع قصيدة كتبها لحبيبته «ندى» أو كلامه عن الحب العذري ومعناه في حياة الرجل الأسطوري في الحب كما كنت أراه يومها وهو في الثلاثينات من العمر أستاذا مثالا نموذجيا لتلميذاته من البنات قبل الصبيان. في الخمسينات من العمر التقيته بعد أعوام طويلة في الجامعة اللبنانية، وهو بكامل أناقته التي عهدته بها، بشعره المصفف بعناية وعطره الذي اخترق أنفاسي، وقامته المشدودة ومشيته المتوازنة، وقبل كل شيء ثباته وهو يبتسم في وجهي ويقول: يا بنت أنت هنا؟.. استغربت أنه عرفني بعد كل هذه السنوات ولطالما كان كالأب وهو الذي رفض الزواج والانجاب مخلصا لحبيبة غادرته لتتزوج سواه، وبدأت أزوره كلما سنحت لي الفرصة لذلك، لنتحدث مطوّلا عن حبّه الذي لا يموت أبداً ومحاولاته في نسيان «ندى» وعشق سواها. فبعد أعوام طويلة دخلت الى كنه حبه الخالد لإمرأة ما برحت مشاعره ولو حاول مرارا أن يعشق أخرى مثل هازار ونبيلة وفشله في حبهما لأن نداه في شرايينه لم تتركه أبدا. لكنني اليوم بعد فشلي كثيراً أن أكتب عنه شيئا كلما حاولت، قررت البدء بالكلام عنه وعن حبه الذي لم تزعزعه الأيام. ربما لأنه كالهرم أمامي ثابت شعريا على أرض الحياة التي كره مرور الزمن فيها وهو صادق بمشاعره سراً وعلانية. إذ لم تكن القصيدة بالنسبة له حبيبة أحبها وانتقل لأخرى هي نداه التي رفض حتى عقله نسيانها. وربما لأني كنت أشعر بوجع الحب الذي عاشه رغم حنو أخته التي ترعاه كابن لها. لكن حزنه الكبير كان الزمن وتغيّراته على حبيبة كانت تكلمه عن نفسها فأصبحت تكلمه عن هموم عائلتها. لكني لن أكمل كلامي عن همومه بل أتوقف عند قصيدة له بعنوان «بعد أعوام طويلة» من ديوان بعنوان «من أغاني شهريار» الذي كتبه بعد عامين من الحرب اللبنانية التي أنهكته كما أنهكت ندى قلبه النابض بحبها الذي أحزنه وآلمه جداً، وهي التي تركته وتزوجت سواه. فهل ينسى الإنسان كل شيء تماما عندما يُصاب بمرض الزهايمر وتبقى الحبيبة؟ وهل من إخلاص في الحب عند الرجل مثل هذا؟ أم أن هازار ونبيلة هما وثيقة تبرهن عن قوة حب رجل لأمرأة هي في روحه كما قصيدته؟
يواجه خريستو نجم حبيبته في قصيدة من ديوان غلافها هو صورة لها متحديا كل شيء قائلا لها صراحة «أقرئيها. كل تاريخي هنا/ غصص حرّى وأعصاب كليلة/ فالتاريخ هو عشق وألم وأعصاب تنزف وغصّات مروّعة. إن تكن فيك بقايا رقّة/ هزّك الحرف وأطرقت خجولة!» مدرك هو لقسوتها وحبها الطاغي على روحه التي تأبى نسيانها. ولكن يبدو أن حرفه هزّها أكثر من مشاعره تجاهها وفي هذا نوع من المواساة، ومع ذلك لم يشأ حتى أن تصاب بخجل من معنى حرف قاله ليقول بعدها «يشهد الله أنا ما شئتها/ لذة الثأر ولا تلك البطولة» فهو شاعر ملتزم بالحس العاطفي والرومانسية القاتلة لحبيبة ما عشق سواها ولا استبدلها بأخرى فيقول لها مستكملا القصيدة «قد كفاني بلسما يا مهجتي/ أنني عشت ولم أعشق بديله» فهل حساسيته العالية تُعد ضربا من جنون عاقل هو مهادنة ذاتية حصرها في قصيدة تشفي غليله؟
«حبيبة اختزلت نساء الأرض، فهي الحقيقة وكلهن كالأشباح أطياف نساء تمرّ مرور الكرام. فالهوى بعدك لا طعم له/ ونساء الأرض أشباح هزيلة» فهل يزيد من شرارة حبها بذلك؟ أم هي إرادة القلب الذي يعشق من تفرّدت بين النساء؟ ليختم بأنها الأصيلة التي تحيا فيه، وهو شارد في خيال بعيد عن واقع ينفيه في طمس مبطن لحقيقة حبيبة تركته ومضت وتسأل عنه كغريبة لم تعرفه يوما، «نسخ هن لوجه واحد/ وخيالي شارد خلف الأصيلة» فالقصيدة مشحونة بالعاطفة والصور الابداعية التي تتوهج بمعناها المختزل، ليؤكد على وعي نفسي هو مخاض لمكنونات لا يستطيع التخلص منها. فهل التنبؤ الشاعري هو ميزة عند الشاعر الصادق بمشاعره وكلامه؟ أم أنها فعلا بعد أعوام جاءته عجوزا فرفض كليا أن يراها على غير ما عرفها؟
(يتبع)