بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 أيلول 2021 12:00ص الشاعرة كوكب دياب لـ«اللواء»: ما فائدة القصيدة إن كُتبت لأهل اللغة والأدب ولم ترفع من مستوى العامة وأدبهم

حجم الخط
آثرت الشاعرة والباحثة الأكاديمية والأستاذة الجامعية كوكب دياب التريّث على الظهور الناتئ الذي يميّز جماعة المتشاعرين النافخين والضاربين عرض الحائط بقضايا جليلة كان على الشعر أن يحملها ويجعلها رسالته في كل زمان ومكان... مؤثرين الظهور بقصائد عاطفية، غزلية، وأفكار رديئة... بعيداً عن كلّ ما يعيشه إنساننا المعاصر من ويلات وحالات التفلّت والظلم والضياع والحرمان والطغيان، وموت المبادئ والقيم الأخلاقية والروحية والوطنية والإنسانية...

كما أنها أرادت ألاّ تكتب إلا ما يمليه عليه ضميرها، وألا تتبنّى في شعرها إلا قضايا إنسانية أو وجدانية اجتماعية هادفة أو وطنية محقّة، لتكون رسالة إلى الأجيال القادمة، ومعها أجرينا هذا الحوار:

{ الشاعرة كوكب دياب ومتانة القصيدة المغرمة بها... هل بات الشعر يصعب فهمه هذه الأيام من جيل جديد لا يتقن اللغة؟

- القصيدة المتينة كانت تستهويني منذ الصغر، فأنَّى وجدتها قرأتها بشغف وتغنّيتُ بها وكأنها مصوغة من أحاسيسي ووجداني، تعبّر عنّي بلسان شبه لساني، وتترك فيّ أثراً ينعكس على قصيدتي انعكاساً يصعب معه التمييز بين قصيدة قرأتها وقصيدة كتبتها... وهذا ما دفع بالبعض إلى تشبيه أسلوبي في بعض قصائدي مثل قصيدة «ناموسة» أو «متكبرة» أو «أمام القاضي» أو «الشعب العنيد» أو «مَن الفاسد؟!»... بأسلوب المتنبّي متانة وتركيباً ولكن بمفردات وتراكيب ومعانٍ معاصرة.

لهذا يمكن لقصيدتي غالباً أن يفهمها من يقرأها من الجيل الجديد ولو لم يتقن اللغة صياغة وكتابة، إلا إذا كان غائباً عن اللغة غياباً إراديّا كاملاً، وكان تواصله فيها ضعيفاً من حيث الفهم والإفهام، فكم من مرة ألقيتُ بعض قصائدي أمام جمهور فيه أمّيون من بيئتي وكانوا غالبا يفقهون ما أقول ويشرحون ما أقصد ويستلطفون فكرة من هنا ويستمتعون بصورة من هناك...

وأنا أرى أنّ الشاعر الحقيقيّ هو من يَشعر ويُشعِر غيره معه من خلال لغة فصيحة دون تقعّر، قريبة من مختلف الأفهام، وإلا فما فائدة القصيدة إن كُتبت أو أُلقيتْ فقط لأهل اللغة والأدب ولم ترفع من مستوى العامة وأدبهم، وأكثر العامّة من المثقّفين؟! وكيف تحقق القصيدة رسالتها وأهدافها إن كانت محصورة لغةً وأداءً ومضموناً بأهل الاختصاص دون غيرهم؟!

{ عشقك للغة العربية وقواعدها هو السبب في ظهور قصيدتك الموزونة... وما رأيك بالخاطرة اليوم؟

- أعتقد أن قصيدتي الموزونة كانت منذ كنتُ أصغي إلى أمي، رحمها الله، وهي تردّد شعراً موزوناً من تأليفها دون أن تكون متعلّمة، ولكنها ذات قدرة إبداعية قلّ نظيرها في بنات جيلها من اللواتي لم يقرأن ولم يكتبن... فتركت فيّ أثراً حيّاً ألمحه في كلّ ما أكتب من شعر...

أما عشقي للّغة العربية وقواعدها فكان السبب في تمتين قصيدتي الموزونة، ومنحي القدرة الفائقة على سبك البيت الشعري بما لا يدع للناقد المغرض منفذاً... وأعتقد أن ما يميّز قصيدتي، سواء القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة، هو النفس اللغويّ والأدبيّ الطويل الذي يفتقر إليه معظم شعراء اليوم، إذ بلغت على سبيل المثال «متكبرة» إحدى قصائدي العمودية 150 بيتاً، و«الله... معك» إحدى قصائد التفعيلة 260 صفحة من القطع الكبير، وهذا ما كان ليكون لولا عشقي الكبير للغة العربية وقواعدها ولولا غناها وغزارة روافدها.

أما الخاطرة فهي أدب رفيع بديع، له جماله كما لأيّ فنّ أدبيّ جماله، وهي مما يناسب جيل اليوم غالباً، الجيل الذي يفتقر إلى النفس الأدبيّ الطويل ويتذمّر من القصيدة الطويلة، فيبتعد عن قراءتها أو الاستماع إليها إن لم يكن فيها ما يجذبه إليها... فيجد سلوّه وضالّته في الخاطرة السريعة، ولكن ليس كلّ ما يكتَب اليوم تحت اسم الخاطرة هو من الخواطر، كما أنّه ليس كل من نظم شعراً بشاعر... فالخاطرة، إن لم تكن واضحة هادفة تؤتي أكلها في كلّ حين، ليست بخاطرة، وهي إلى العبث أقرب منها إلى الأدب.

{ هل ينزوي الشاعر هذه الأيام لأنه بحاجة إلى الظهور الصوتيّ أكثر منها إلى الورقيّ؟

- أسباب كثيرة تدفع بالشاعر الحقيقيّ اليوم إلى الانزواء، لا علاقة لها بالظهور الورقيّ أو بالظهور الصوتيّ، منها على سبيل المثال، الطفرة الشعرية الفيسبوكية النافرة، حيث ينام جاهلٌ في مجموعة يقودها صغار، فيستيقظ في أخرى شاعراً لا يشقّ له غبار...! هناك، حيث أصبح من أهمّ معايير جودة الشعر: عدد اللايكات (الإعجابات)، وتصويت فلان وعلان من الأصدقاء والصديقات، والمجاملات الفارغة من جيران المتشاعر وأهله وأصحابه وصويحباته، ونوع الصورة المرفقة بالمحتوى، وغير ذلك من معايير أتى بها الفيس والفيسيّون ممن لا يمتّون بصلة إلى الشعر ولا إلى لغته... فيظنّ امرؤ الفيس بين صفحة وأخرى أنه أصبح امرؤ القيس.

بالإضافة إلى ذلك هناك انتشار ظاهرة النسخ واللصق للمحتوى (سرقة ملكية القصيدة)، حيث ينشر الشاعر اليوم قصيدة في صفحة أو مجموعة شعرية أو ديوان مطبوع، فيجد أنّ قصيدته موقّعة بأسماء لصوص متشاعرين. فإلى أن يحين زوال هذه الطفرة أو الفقاعة الطارئة على سماء الأدب والشعر، لا بدّ من الانزواء والكتابة بعيداً عن هذه الأجواء التي فيها يتساوى الغثّ بالسمين، والسارق بالشريف، والمشتري بالمبدع، والشارع بالشاعر، والأصيل بالطارئ...

{ قصيدة اليوم ومفهوم ما بعد الحداثة كيف سيؤثّر في القصيدة برأيك؟

- القصيدة إنسان فيها ما في الإنسان من مكوّنات متغيّرة وأخرى ثابتة... وأنا أرى أن القصيدة قصيدة مهما طرأ عليها من متغيّرات فلا يجوز أن تتخلّى عن جذورها أو تخلع وجهها الذي يميّزها من باقي الفنون الكتابية والتواصليّة... فالقصيدة قبل أن تغزوها الحداثة، شكلاً ومضموناً، كانت لها ثوابت لا تتغيّر، وما زالت، منها الوزن والموسيقى والبيت والقافية والرويّ والتركيب اللغويّ الذي يميّزها من غيرها، والمفردات والأساليب التي تطبعها بطابع العصر الذي نشأت فيه... وهذا ما يفترض ألا تغيّر الحداثة من القصيدة إلا بمقدار ما يغيّر الإنسان ثوبه دون أن يغيّر جذره ووجهه ليبقى إنساناً، فإذا نزع الإنسان وجهه كما ينزع ثيابه كان إنساناً مشوّهاً بمقدار ما نزع، وإذا انسلخ عن جذوره ذبل واندثر، ومثله القصيدة السائدة اليوم، فلا يمكن لقصيدة النثر الفنّيّ أو «النثيرة» اليوم أن تكون شعراً أو أن تحلّ بديلاً، كما لا يمكن لقصيدة الشعر أن تكون نثراً فنّيًّا، فلكلّ منهما وجهه وحياته وأسلوبه وجماله ولو تأثّرت ألوانه بألوان الحداثة وما بعدها...