بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 تشرين الثاني 2021 12:00ص الكلمات والنساء

حجم الخط
المهدي مستقيم*



تحتوي اللُّغةُ بما هي نظامٌ رمزيّ مضمَّناتٍ علائقيّة تفاعليّة اجتماعيّة، ومن ثمّ فإنَّ القول بحيادها أمرٌ مستحيل. فهي تحتوي روابط قوامها الصراع والتصادُم. تقول «مارينا ياغيلو» في كِتابها: «الكلمات والنساء»، الصادر حديثاً عن منشورات المركز الثقافيّ للكتاب، بيروت، 2021، بترجمةٍ من الناقد والأكاديميّ المغربيّ سعيد بنكراد: «الغاية من اللُّغة ليست هي دائماً تيسير التواصُل، فهي أداة للرَّقابة والكذب والعنف والاحتقار والقمع، وهي أيضاً أداة للمتعة والالتذاذ واللَّعب والتحدِّي والتمرُّد. فقد تكون تارةً مستودعاً لكلّ المكبوتات (وذلك عبر استبطان قواعد وطابوهات) وقد تكون تارةً أخرى متنفَّساً أو وسيلةً للتحرُّر».

وتتأثّر علاقةُ الفرد باللّغة بطبيعة علاقته بالمُجتمع وبمعايير التنشئة الاجتماعيّة المُتّصلة بمُحدّدات: الطبقة، والجماعة الإثنيّة، والسِّن، والمِهنة، والمنطقة، ومعايير التمايز الجنسي. ومن أجل ذلك، تُراهِن «مارينا ياغيلو» على فحص الشَّرط الأنثوي وفق مُقاربةٍ سوسيولسانيّة، وذلك بتوسُّل مَنهجٍ علميّ دقيق يحتلُّ فيه مُتغيِّر الجنس موقع الريادة. غير أنَّ تركيزها على المُتغيِّر ذاك لم يمنعها من الانفتاح على باقي أشكال التمييز الاجتماعي، وعياً منها بأنَّ النساء لا يتمتّعْن بوجودٍ اجتماعي مُستقلّ. ومردُّ ذلك إلى تركيزها على المُقاربة السوسيولسانيّة. بيد أنَّ اللّغة قد أَمست تُشكِّل «إلى حدٍّ كبير، مرآةً ثقافيّة، وهو الأمر الذي يُبرِّر التمثّلات الرمزيّة (من خلال بنيتها أو من خلال لعبة الإيحاءات أو الاستعارة داخلها)، وهي أيضاً صدىً للمُسبقات والمسكوكات، وهي في الوقت ذاته، ما يُغذّي هذه الأحكام مُجتمعة».

كيف يُمكن استثمار اللّغة من أجل فَهْمِ وضْع المرأة داخل المُجتمع؟

ثمّة تمايُزٌ لسانيّ على مستوى الجنس، فوجود اختلاف بين كلام الرَّجل وكلام المرأة أمر أكَّدته دراساتٌ أنثروبولوجيّة عديدة، حيث أشار عالِم الاجتماع الأميركي بول فورفاي Paul Furfey في مقالٍ صغيرٍ سنة 1944، إلى العلاقة القائمة بين اللُّغة والجنس في مُختلف المُجتمعات البدائيّة. وكذا استنتاجه أنَّ لغة الرجال يُمكن أن تكون أداةً للهَيمنة على النساء، وأنَّ مُستعمِلي اللّغة «المعياريّة» أو الصيغة المُهيْمِنة يُمارِسون سلطتهم على مُستعمِلي العاميّة أو الصيغ التي يُنظر إليها باعتبارها «أقلّ قيمة من المعياريّة». وقد اعتُبر هذا التصوُّر في حينه فتحاً جديداً. ومع ذلك، فإنّ فورفاي يُقصي كليّاً من دراسته اللّغاتِ «المألوفة» (أي لغات العالَم الغربي). وبما أنَّ الأنثروبولوجيا هي أوّل مَن أَثار هذه القضيّة، فقد اعتُبر التمايُز الجنسي في اللّغة لفترةٍ طويلة سمةً عارِضةً ستندثر باندثار المُجتمعات البدائيّة أو تَغَرْبُنِهَا (والأمر سيّان)، حينها سيتخلّى الناس عن الخرافات والطابوهات والطقوس المعقّدة، وسيفقدون في الغالب لغاتهم لمصلحة لهجاتٍ أو لمصلحة لغاتِ المُستعمِر. ويقوم التمييز اللّساني في هذه المُجتمعات البدائيّة أو العتيقة أساساً على طابو الزواج الخارجي.

وقد أكبَّت الدراساتُ السوسيولسانيّة في ما بعد على تطوير هذا الصرْحِ المعرفي الذي دشَّنه المَسرى الأنثروبولوجي إذ «سيرى النور، مع ظهور اللّسانيّات الاجتماعيّة، توجُّه جديد حاول من جهة أن يكون حاملاً لرؤية شاملة لهذه القضيّة، وذلك من خلال استيعاب المعطيات التي قدَّمها الأنثروبولوجيّون والمُهتمّون بالعاميّات حول المُجتمعات القديمة ضمن ملاحظاتٍ مُعاصِرة خاصّة بالمُجتمعات «المُتطوِّرة»، وبَلْوَرَ من جهةٍ ثانية، انطلاقاً من دراساتٍ ثقافيّة، نقداً اجتماعيّاً، وذلك بربْطِ الاستعمال اللُّغوي بالوضع الاجتماعي للرجل والمرأة وقد تطوَّرت في الولايات المتّحدة الأميركيّة منذ عقْدٍ من الزمن مدرسةٌ في اللّسانيّات الاجتماعيّة النسويّة أَصبح لها امتدادُها اليوم في فرنسا».

وقد أَسهمَتِ الحركاتُ النسويّةُ بشكلٍ فعّال في انبجاسِ هذا الصرح المَعرفي الجديد، انطلاقاً من تركيزها على العوامل الاجتماعيّة والإيديولوجيّة في تشييد الشرط النسوي، وازْوِرارها ازْوِراراً عن عامل الجنس، «أي تبنّي وجهة نظر اجتماعيّة، عوض وجهة نظرٍ نفسيّة، ممّا يعني رفْضَ التفسيرات السيكولوجيّة السائدة التي تُركِّز على «الطبيعة الأنثويّة»، الأنثوي الخالد، وهذا معناه اتّخاذ موقف ضمن السِّجال: الطبيعة/ الثقافة».

مُقاوَمة لغة الاحتقار

تشدِّدُ المُقارَبةُ السوسيولسانيّة على وجودِ اختلافاتٍ واضحة بين الخطاب الذكوري والخطاب الأنثوي، وهي اختلافات ذات أصلٍ ثقافي صرف، حيث حاولَتْ أبحاثٌ كثيرة أُنجزت في الولايات المتّحدة الأميركيّة تحديدَ الاختلافاتِ الموجودة في السّجالات المعجميّة (المُرتبطة بالسمات الثقافيّة من قبيل الأدوار الاجتماعيّة، تقسيم العمل، طابوهات اللّغة الخضراء أو البديئة، أو المُرتبِطة بسماتٍ «طبيعيّة» يتمتّع بعضُها بتأويلٍ نفساني)، وتحديد اختلافاتٍ من طبيعةٍ تركيبيّة أسلوبيّة (مَيل إلى الصيغ الاستفهاميّة أو الاستفهاميّة الإنكاريّة، اختيار كلمات لغويّة في الخطاب، استعمال صيغ الحدث المفعوليَّة) وتحديد اختلافات أخرى من طبيعة صوتيّة. وهناك دراسات انصبَّت على «الإنجاز اللّفظي»، ما يعود إلى الثرثرة والمُحادَثة وسرعة الصبيب والقدرة على التحدُّث أمام الجمهور، والاستعداد للازدواجيّة اللّغويّة، إلخ، وإلى غيرها من أشكال السلوك غير اللَّفظي التي يقتضيها التواصُل.

على ألّا يُفهمنَّ ممّا سبق أن لا اختلافات ذات مصدر طبيعي بيولوجي مثل: الصوت، الرنّة، والنبر، والصبيب... إلخ. فلغة النساء غالباً ما تكون مؤدَّبة مهذَّبة لطيفة، بينما تكون لغة الرجال ميّالة إلى الشدّة والقوّة والقسوة. غير أنّ العوامل الثقافيّة تدعِّم الاختلافات الطبيعيّة تلك، ويتمّ ذلك عن طريق «الاكتساب الاجتماعي للأدوار (وهذا يصدق على سَنَن أخرى كالهيئة والإيماءات وتعابير الوجه... إلخ). إنَّ التمايُز الجنسي في المقام الأوّل، واقعة من طبيعة اجتماعيّة ثقافيّة تنعكس على اللّغة بصفتها نَسَقاً سميائيّاً من بين أنساقٍ أخرى».

يتأسّسُ كلٌّ من الخطاب الذكوري والخطاب الأنثوي على مجموعة من السَّنَن الثقافيّة يؤدّي خرقُها إلى خطرِ العقاب الاجتماعي المادّي والرَّمزي، «فبمجرّد ما نقبل بوجود سنن نسوي وآخر ذكوري لا يشبهه، فإنّ مشكلة الخرق ستُطرح. إنَّ أشكال الخرق غير مقبولة في العموم (امرأة «مُسترجِلة»، ورجل «أنيث» أنظر أيضاً مُعجم المثليّة). وهنا أيضاً تندرج اللّغة ضمن مجموعة من السنن الاجتماعيّة. وسيكون ذلك الخرق أكثر خطورة إنْ هو صدر عن الرّجال، ذلك أنَّ بإمكان النساء اليوم مُمارَسة الكلام كما يُمارسه الرجال».

من نافل القول إنَّ اللّغة المُهيمِنة على المؤسَّسات الاجتماعيّة والسياسيّة هي لغة الرجال، إذ غالباً ما يتمّ إزاحة لغة النساء وتحقيرها. ومن ثمّ فإنَّ مَوقع المرأة في اللّغة وفي أشكال الهَيْمنة ما هو سوى انعكاسٌ لمَكانتها داخل المُجتمع، وهو الأمر الذي «تكشف عنه دراسة النَّوع، «النحوي» أو «الطبيعي»، وقيمته الرمزيّة، وطبيعة اشتغاله (استيعاب المذكَّر للمؤنث)، والتفاوُتات (المورفولوجيّة: أسماء الفاعل، بأبعادها التقريريّة والإيحائيّة) ولغة الاحتقار (الصفات الحاطَّة من شأن النساء، التي تُخيِّر المرأة بين أن تكون قدّيسة أو عاهرة، إنّه السوقي الجنساني ذاته) والهويّة الاجتماعيّة للنساء (تحديد المرأة في علاقتها بجوزها وأبيها)». وتعكس تعريفات القواميس في الأخير، التي هي صنائع إديولوجيّة في الغالب، الذهنيّة المتخلِّفة لمُستعملي اللُّغة. 

كان رهان «مارينا ياغيلو» على امتداد صفحات هذا الكِتاب الشيّق عقْدَ مُقارناتٍ بين نضال النساء وباقي النضالات الاجتماعيّة والسياسيّة. على أنَّ حركات التحرُّر تتقاسم الخصائص اللّسانيّة ذاتها، وقد خلصت من خلال المقارنات تلك إلى ما يلي:

- إنَّ استقلاليّة السجالات والأسنن المتميّزة تجعل الحوار صعباً، إن لم يكُن مستحيلاً.

- إنَّ طريقة الكلام تُصنِّف الأفرادَ وتُحافِظ على التمييز.

- إنَّ السلطة تفرز سوءَ فَهْمِ الآخر، الإنسان الأبيض والبرجوازي والراشد، الذي يعرف ما يريد: السلطة، والمال والاحتفاظ بهما. أمّا ما يريده الدُّوني فهو شيء غامض. ولكن ماذا يريد هذا الطفل؟ ولكن ماذا يريد البروطونيّون، والكورسيكيّون، والسود... إلخ؟ بل ماذا تريد النساء؟ ولكن عمَّ تبحث النساء؟ كما يقول فرويد.

- يتطلَّب النّضال من أجل المُساواة والحريّة والهويّة الثقافيّة من النساء والمجموعات المضطَّهدة والأقليّات والمُهمَّشين أن يتجاوزوا النضال من أجل الحقّ في التعبير والكلام، من أجل الحقّ في تحديد هويّة، في الحقّ في امتلاك اسم، أي النضال ضدّ لغة الاحتقار.

----------

* ناقد وباحث من المغرب

بالتعاون مع (مؤسسة الفكر العربي)

نشرة «أفق»

أخبار ذات صلة