بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 كانون الأول 2021 12:00ص المباني الفارغة

حجم الخط
لم تعد المباني ممتلئة بناسها، لم تعد عتباتها ترقص للقادمين أو تراقص الساكنين، لم يعد بلاطها معشقا بالناس، لم تعد جدرانها، معشّقة بالناس.. لم تعد سقوفها معشقة بآهات الناس.. فرغت المباني المنزلية.. فرغت المباني الخاصة، فرغت المباني العامة.. فرغت المباني الحكومية.. فرغت المدارس والثانويات والجامعات.. وحتى رياض الأطفال وحادقات الأطفال.. صارت جميعها مثل مباني محطات القطار. صارت الطرق إليها، مثل سكك الحديد، بلا قطارات وبلا مسافرين وبلا مودعين وبلا مستقبلين، وبلا زوار. قست الظروف المادية عليهم، دفعتهم إلى هجرتها.. دفعتهم لتركها.. دفعتهم للبحث عن غيرها، طلبا للرزق والأمان.

قرى في الجبل، مهجورة. مداخلها، أبوابها، منازلها، طرقها، كلها بلا أنيس.. شبابيكها كئيبة باكية، لم تفتح لنزهة ولو حول نفسها، منذ زمان بعيد. راح أهلها إلى المهاجر، يعمرون حياتهم في ديار الإغتراب. ولم يبقَ لهم فيها حتى وريث.. صارت مشاعا لنعيب البوم ولغراب الخرائب.. ولأجنحة الحمام.. تساقط فيها الروح، كل يوم، تصفعها الريح كل يوم.. تغطيها الأشجار بأوراقها الصفراء.. تجعل منها بعد رحيل أهلها، مقامات جماعية للعائلات.

مبانٍ حكومية فارغة.. تخلّت عنها الحكومات منذ زمان بعيد، واحدة بعد أخرى لعصر النفقات. ولم يعد من وصي عليها يزورها ولو في الملمات. لم يعد لها حارس أمني، ولا حارس قضائي ولا سجل، ولا ناظر يحميها من التعدّيات. دارت عليها العصور الخوالي.. أسقطتها من السجلات.. وصارت مطمعا للنابهين وللناهبين.. وصارت تقضم قطعة قطعة للنازلين.. صارت خرائب قديمة هالكة.. تساقطت منها الروح، منذ زمان قديم.

مبانٍ مدرسية فارغة.. مبان جامعية فارغة.. مبان حكومية فارغة.. أين ذهب التلاميذ الذين كان الحي يستيقظ على أصواتهم الصباحية على «عجقتهم» في الصباح؟ أين غادر طلاب الجامعات، لم يعودوا إليها، لم يسجلوا أنفسهم للعام الدراسي الجديد؟ أين هم المدرّسون والأساتذة الجامعيون؟ لم يعودوا إلى صفوفهم.. لم يعودوا إلى منابرهم.. لم يعودوا إلى نشاطاتهم، تملأ القاعات... تملأ الملاعب. صارت مبانيهم كلها يقتلها الفراغ.. يحتلها الفراغ. صارت ملعبا يوميا للقطط الشاردة، تملأ جوانبها. تملأ قاعاتها.. ممراتها، تملأ زواياها، بالمواء.

فرغت مكتبات البلديات والمكتبات العامة من زوارها.. من روادها.. فرغت حتى من الموظفين، من الحراس، من الأمناء... راحوا يبحثون عن لقمة عيشهم خارج المكان. فرغت الأندية من الناشطين. فرغت البلديات نفسها، من الموظفين. لم يعد بمقدورهم الوصول إلى أعمالهم اليومية.

مراكز للإدارات فارغة من موظفيها بلا إضراب. لم يعد في جيوبهم، ما يوصلهم إلى أعمالهم.. ولم يعد لهم من سبيل لدفع أجرة المواصلات.. إستعاضوا عن الحضور بالمناوبة. تفشّى بينهم داء التمارض، تبريرا للغياب، حين لا يسأل عن حضورهم، ولا يسأل مسؤول عن الغياب. صارت الإدارة بلا إدارة. تهاونوا حتى حدود المهانة حتى حدود الإهانة. فالمدير نفسه، لا يستطيع الوصول إلى مكتبه، في الطوابق العلوية، لإنقطاع الكهرباء: لا كهرباء دولة  لا إشتراك.. لا مازوت.. لا أموال... فليلتحق بزوجه، بعائلته، بأهله، لشهور  في دنيا الإغتراب.

وزراء بلا وزارات.. دخل موظفوها في عالم الإمتناع عن الحضور. «سيبوا» الوزارات خلفهم، للجراذين، تتقاذف طوابقها. تصدأت المصاعد في أمكنتها، لم تعد تحرك، لا صعودا ولا هبوطا.. ولا أحد ينتظر على بابها رؤية الوزير. صارت تشكو للوزير إنقطاع الكهرباء: وزير تعوّد زيارة المصعد لمواساته في الشكايات من كثرة لطمه، لا للحضور إلى الوزارة.

حكومة رميت بحجر في أول الدرب.. إجتماع يتيم منذ ولادتها.. ثم إنفجر قلبها.. ودخلت في «الكوما» الحزينة. خفق قلبها خفقة.. إهتز لها ميثاقها.. صارت قعيدة أهلها.. صار رئيسها جوالا، صار يعوض عليها، بالجلسات الجانبية. وبالإجتماعات الجانبية صار يتقبل المراجعات بصورة جانبية.. صار طبيبا مواسيا للحكومة، لا رئيس الإجتماعات الحكومية. صار للأسف، «أهون» من قائد، لفرقة كشفية.

فراغ في السراي الحكومي.. فراغ في القصرالجمهوري.. وهجرة قسرية للمجلس النيابي، تجعل كل هذي المباني الرئاسية الهالكة، مثل  عنجر.. مثل بعلبك.. مثل برج المر في أول شارع الحمرا،  تبكي أمجادها الغابرة.

وطن يعيش على فراق أهله، بعدما ضربه الفراغ، وأصاب منه مقتلا. ترى كيانه يهتز بسبب الفراغ. ترى قراه تهتز بسبب الفراغ. ترى حكومته تهتز بسبب الفراغ. ترى جميع القصور الرئاسية تهتز بسبب الفراغ. صار لبنان فارغا كله: أرضا وشعبا ومؤسسات. صار لبنان جاهزا لإي شكل من أشكال الإستعمار.

وطن بلا أسنان.. وطن بلا لسان.. وطن بلا عيون.. بلا أذرع.. بلا أقدام.. بلا عقل.. بلا قلب... بلا طعام.

وطن غامض، يعيش في الكوما السياسية القاتلة، بلا بنيان، بلا حكومة، بلا وزارة.. أخلى أهله للمشتهين من بعيد، صار شبهة للإستعمار، صار شبهة للتوطين، صار شبهة للمستوطنين الجدد،  القادمين إليه، من أي مكان!





أستاذ في الجامعة اللبنانية