المثقف العربي المناضل مسكين، محاصر، مطارد، خافت الصوت، مطلوب منه الإنصياع أو الببغاوية أو السكوت أو الحديث همساً، وإما مواجهة الخطر والصعود إلى مرتبة الاستشهاد مادياً أو معنوياً. أنه خافت الصوت مرغماً وأيّا يكن حجم جماهيريته وجماهيرية إنتاجه، فهو محاصر بالأميّة والفقر وقلّة القارئين، ورفض كُثر القراءة وإنشغالهم عنها بمشاكل الحياة الضاغطة، وعجز الراغبين عن شراء كتابه. الناس يجوعون في أيامنا هذه، فكم منهم يستطيع أن يشتري كتاباً؟
الكاتب ترف لدى الكثير ممن يريد أن يوجّه إليهم كتاباته، وتبقى كتبه، في كثير من الأحيان، نهباً لمناقشات أو قراءات محدودة بطبقات أو فئات اجتماعية لا يريدها هو. فيشعر في بعض الأحيان كأنه يكتب لشلّة وليس لجماهير. ان أسماء لامعة قد تبرق كالشهاب في سماء الثقافة، فيما هموم الحياة تطحن الإنسان العادي البسيط وتحجب عنه تأثير الثقافة الجادّة.
والآن صوته خافت، فانه بالضرورة غير مسلّح في مواجهة الطغاة وهم كثر، وذوو جبروت، يستمدّونه ليس من جاه القوة فحسب وإنما جهالتها أيضاً، وهي جهالة لا تفقر أي اختلاف في الرأي وتعتبره مروقاً، ولا تسمح الحد الأدنى من التفكير المستقل بل تعتبره شغباً.
وعلى المثقف أن يفتح عينيه كل صباح ليختار، وكثر يختارون الكلمة الملجومة ليس مفاجأة منهم للأخلاق أو ضعفا وإنما لأنها المتاح الوحيد، فالثقافة الجادّة بضاعة بائرة، لا تطعم فما، والحكام وحدهم قادرون على الدفع، والبديل الآخر، في أحيان كثيرة، ليس مجرّد السجن، إنما هو أخطر.
كتم الأنفاس والإطاحة الى زاوية نسيان قاتل ينسي الناس اسم هذا الكتاب، وينسي الكاتب نفسه ومثله وقيمه.
وبين هذا وذاك هامش من الممكنات التي تتاح بهذا القدر أو ذاك، لكنها في النهاية تذكّرني بقصة العصفور الذي ألحّ على صاحبه ليطلقه فربط ساقه بخيط وتركه يطير مطمئنا إلى انه لن يطير إلا في حدود الطول المسموح به من الخيط والى انه يستطيع متى يشاء أن يضع العصفور في القفص.
كيف يتسنّى لإنسان هذا إحساسه أن يقول كل ما لديه من كلمات وهو إما في القفص أو مهدّد بالعودة إليه؟ الأمر في النهاية يحتاج الى مواجهة وشجاعة ورفض للقفص والخيط معاً. وعلى جيلنا أن يحسم أمره ويضحّي كي يرسي تقاليد جديدة تحفظ للمثقف آدميته... فلسنا بعد آدميين.
فالكاتب لا يخاصم ولا يشاتم ولا يقاتل, وهو ليس شريراً ولا ملحداً, ولكنه إنسان متألم وحزين, يمارس الحزن كفضيلة أخلاقية, ومحكوم عليه بأن يبقى أسير الغضب والرثاء والاشمئزاز.
تحتّم عليك أن تؤمن، ولكن بلا كرامة عقلية, وأن تنافق، ولكن بلا كرامة أخلاقية. وأكثر من يشقون بهذا الإيمان أو النفاق هم المتفوّقون، هم ذوو الأفكار والمذاهب الحرّة الجريئة، وذوو الأخلاق الشامخة الرافضة، وذوو الوعي الذي يطهّر الأفراد، ويصوغ نفوسهم على المستوى المبرّأ من جميع العيوب والأهواء وأسباب العجز.