كافحت الدول العربية سينمائيا للوصول الى مكانها الذي تبوأته اليوم بعد العديد من خيبات فيها منذ عام 1896 عندما تم عرض أول شريط سينمائي في مصر، وتحديداً في الإسكندرية قبل أن تستمر في التأرجح، وهي تعاني من الأزمات السياسية والإقتصادية المتتالية في الشرق الأوسط بكامله. إذ غابت قضايا المرأة المهمة عن الأفلام العربية وبشكل عام عن الشاشات، وظهرت تلك التي تطالب بحريتها دون تقديم الرؤية الصحيحة أو المعافية لها مجتمعيا أو بالأحرى تلك التي تصرفها عن التفاعل في المجتمع العربي بشكل يليق بها أو الذي لا ينكر حقها الإنساني بعيداً عن الإسفاف والتعرّي والخروج من قوقعة الأزمة الى قوقعة الشكل، وبقيت لسنوات عديدة تأخذ دور الضحية والمظلومة والمنتهكة والخجولة التي تعاني الكثير من الخسائر، وبصورة نمطية المرأة أسيرة التقاليد الخاضعة لقوانين الرجل المجتمعية والشرقي الثائر لشرفه، وهذا حقيقة لم يمنح المرأة إلا مزيداً من التشويهات خاصة تلك التي تصوّر سحرها وفتنتها وجمالها وكيدها أو تلك التي تصوّرها أقلّ ذكاءً والحالمة بأمير على ظهر فارس يأخذها ويرحل، أو تلك التي استبدلت الشكل الخارجي بشكل آخر. فهل نجحت المرأة في السينما العربية بالخروج من التقليد والانطلاق نحو الحداثة؟
عكس الانتاج السينمائي الصورة النمطية للمرأة العربية في فضاءاتها غير المرضية، إلا من خلال شخصية الأم أو الجدة أو العمة أو الزوجة المتفانية في خدمة أسرتها، ولكن بشكل أقرب الى الارستقراطية السينمائية كفيلم «الشموع السوداء» للفنانة نجاة الصغيرة والفنانة القديرة أمينة رزق حيث تبدو في قصر من رفاهية وقصة هي أقرب لقصة الحسناء والوحش، لكن برؤية أخرى وان اختلفت بالمضمون، إلا انها تشاركت مع ما تبقّى بالسينما الغربية من حيث الكثير من التفاصيل المؤكدة على اننا لم ننفصل سينمائيا عن الغرب وان اختلفت المجتمعات، إلا بالاستثنائيات ولم ندخل عمق المجتمع العربي أو المصري الذي كان يمثل تقريبا المجتمع الأردني والعراقي والسوري والخليجي من حيث المبادئ المجتمعية وتقاليدها، والتغييرات التي رصدتها الشاشات السينمائية على مراحل مختلفة.
لم تمنحها السينما العربية صورة المرأة الإنسان إلا في القليل النادر منها. خاصة أن المرأة العربية تمثل كرامة المجتمع العربي وتضعه على المحك، وهذا سبّب لها الجمود سينمائيا وقتلها إسلاميا (أي دون فهم كامل لماهية المرأة في الإسلام) بعد أن عكست السينما هذا الواقع الذي لم تعالجه كما يجب، ولم تفصل بين ما هو مجتمعي عربي يضم العديد من الطوائف وما هو إسلامي، ولم تكن موضوعية في بنائها لأدوار المرأة الحقيقية بعيداً عن التقليد الغربي، وبعيداً عن الإنفلات الذي تعاني منه المرأة اليوم على الشاشات. فالسينما قدّمت الصورة النمطية للمرأة عبرها على سبيل المثال فيلم «مراتي مدير عام» للفنانة «شادية» والفنان «صلاح ذو الفقار» ومن إخراج «فطين عبد الوهاب» سنة 1966، وكما جاء في ملخص الفيلم «يفاجأ حسين عمر رئيس قسم المشروعات بنقل زوجته عصمت مديرا لشركة الإنشاءات التي يعمل بها، يخفي الزوج حقيقة علاقته الزوجية بالمدير، ولكنه يضطر للاعتراف بها بعد أن تحوم حولها الشبهات، وبعد المتاعب التي تعرّضت لها ومنها التملّق الشديد للمديرة عصمت فهمي، والشكوك في سلوكها، وذلك كله تحت سمع وبصر حسين. يتأزّم الموقف بينه وبين زوجته رغم عدم تقصيرها في واجبها كزوجة في البيت ونجاحها في إدارة عملها بالشركة، حيث حققت من الانجازات، ورغم العراقيل تطلب الزوجة النقل من الشركة التي بها حفاظاً على بيتها وزوجها الذي أصبح سريع الغضب ويثور لأتفه الأسباب. تحاول عصمت أن تعيش شهر عسل جديد مع زوجها، يشعر الموظفون بالندم لنقلها ويطلب حسين نقله للمصلحة الجديدة التي بها زوجته، فقد أدرك قيمتها الحقيقية في العمل»، قصة الفيلم هادفة واستطاع منح المرأة القيادة، وبذكاء وصلابة، إنما ليس بالشكل المجتمعي العربي الذي كان سائداً آنذاك ولا بالشكل الإسلامي بل! برؤية متشابهة مع الأفلام الغربية أو دمج المرأة العربية مع الغربية بالشكل و«الاتيكيت» منتفضة بذلك على الزيّ القديم: الجلابية والغيط والفلاحة، كما متمرّدة على ما عرفناها فيها من أفلام سابقة كراقصة ومغنية ومؤدية لدور إستثنائي، وربما لأن الفيلم كان في فترة سياسية تدعو الى تقدّم المرأة ويحثّ الى التغيير خاصة للاقطاعية التي كانت سائدة. إلا انه ما استطاع استكمال الرؤية الحقيقية للمرأة ودورها الإنساني وليس الوظيفي أو الزوجي أو الأمومي، فهي إنسان قبل كل هذا، بل سلّط الضوء على عاطفتها أيضا ورعايتها حتى للموظفين. فهل الفيلم استبعد المرأة المحجبة من كل هذا؟ ولماذا لم تظهر المرأة في حجابها رغم اننا رأيناها تصلي في فيلم «الشموع السوداء» مع الممثلة القديرة أمينة رزق؟
بعد ثورات الربيع العربي وتغيير الإتجاهات في صناعة السينما بدت المرأة أكثر صلابة في توجيه الدفة نحو العنصر البنّاء في الانتاج والإخراج وقبل ذلك في الكتابة والتمثيل متجاوزة بذلك الحواجز التي أصابتها بالاحباط لعدة مرات. فوقفت مع الجيل الجديد من صانعي الأفلام، وشقّت طريقها بثقة وجرأة، لتخوض في الموضوعات كافة، وتتعامل معها كحقائق اجتماعية وسياسية وحياتية بقدرة على المعالجة وتبيان أوجاع المرأة تحديداً والفروقات التي لا بد من إلقاء الضوء عليها سينمائيا، وحتى عبر التعددية الدينية والمسامحة واحترام الكائن شكلا ومضمونا، وبدأت تأخذ الكثير من الأدوار السينمائية متحجبة محتجبة قادرة على تصحيح الصورة التي كانت سائدة من قبل، مهتمة بالمضمون قبل الشكل، محافظة على القضايا السينمائية المطروحة بمنطق إنساني أولا ومجتمعي متآخي مع الكل، وضمن الحرص على جودة معرفتها بقضاياها المستحقة، وبفن يليق بها كإنسان أولا وكزوجة وأم وابنة وأخت الخ..
صنعت المرأة العربية لنفسها اسما في صناعة السينما مؤخراً، وبحيوية بدأت في انتاجها وإخراجها الأفلام الوثائقية والأفلام العربية والأفلام القصيرة والمتحركة، ودخولها أيضا من أبواب المهرجانات الدولية للسينما كمهرجان الدوحة السينمائي الذي شهد على قدرة الانتاج النسائي للأفلام الوثائقية، وببصمة فريدة من نوعها في العصر الحديث الذي خرجت فيه المرأة من لعب الأدوار التمثيلية فقط الى الانتاج والإخراج، وبدأنا نشهد المواضيع التي تعالج المساواة بين الجنسين، ولكن يبقى السؤال متى ستدخل المرأة كإنسان له كينونته الخاصة في السينما التي لا تسلبها هذه الماهية من أجل التحرر وكسر قيود الموروثات ذات الملامح الرجعية التي لا تنتمي أبداً الى المفاهيم الإسلامية الحقيقية، فتحرير المرأة من الموروث الاجتماعي في السينما العربية لا يعني أبدا انها مضطهدة إسلاميا بل العكس. ان ما شاهدناه مؤخراً من دخول الممثلة عفاف شعيب أو سهير البابلي أو سهير ذكي بالحجاب الى العالم السينمائي لم ينتقص من قيمتهن الفنية، بل رفعها الى الحد الأعلى وجعلهن يتمسّكن بالوجه السينمائي، ولكن بعكس الصورة التي عرفناهن بها فهل هذا الاختلاف بين التقليد الغربي والحداثة العربية هو انتقاص للمرأة العربية في السينما، وهي التي أصبحت المنتجة والممثلة والمخرجة والتي تنافس في المهرجانات الدولية؟ وهل تغريب المرأة سينمائيا هو لتحرّرها أم لوضعها بين هلالين تحت إطار المرأة والتحرر والحقوق وتُنسى فيما تبقّى من حيث احترامها واحتشامها ومعرفة قيمة وجودها السينمائي الذي بدأ مؤخرا كما قلنا بالانتاج والإخراج والكتابة السينمائية وغير ذلك؟
ما بين السينما العربية والمرأة في السينما فروقات كثيرة، وهذا قد يزيد من الاشكاليات لدخولها عبر هذا الباب الواسع الذي يجعلها مرئية ويترك قضاياها في معضلات لا حلول لها برغم أنها أم الإنسانية وعليه يجب أن تتمتع بالصورة المثالية التي تنتمي الى الإصلاح والمُثل لا الى التقليد الغربي الأعمى بمعنى دراسة أدوارها ووضعها سينمائيا في صورة تخدم مجتمعها العربي، وتخدم صورتها الإنسانية وتعالج مشاكل حقوقها بحنكة ودراية دون كسر للمحرمات أو لصورتها الاجتماعية اللائقة بها كفيلم المخرجة اللبنانية إليان راهب في فيلمها «من تبقى» بالإضافة الى أفلام أخرى لنساء صانعات أفلام، ولكن برؤية تجعلنا نرى المرأة من منظور الانتاج السينمائي البنّاء والإخراج السينمائي الهادف لقضايا المرأة بعيدا عن أجندات كسر المحرّمات المعلّبة، والتي أصبحت مثيرة للتساؤلات عند صانعي الأفلام خاصة بعد ثورات الربيع العربي.
ما يزال القلق يحيط بالمرأة في السينما العربية رغم خروجها من التقليد الى الحداثة، إلا انها حداثة انقلابية أو الحداثة التي تدعو الى كسر المحرّمات بغض النظر الى الفضيلة المجتمعية. إذ لا بد من تحديد الأهداف القائمة على الإصلاح الإنساني غير المسيئ للمجتمعات العربية المحافظة كافة من مبدأ احترام القناعات الراسخة والتعايش الأنقى بشتى الوسائل دون الولوج الى الفوضى المخفية تحت الشعارات البرّاقة التي من شأنها أن تسيء للحداثة السينمائية التي بدأت تقودها المرأة عبر مفاهيمها الانتاجية والاخراجية والتمثيلية بعيدا عن التعرّي وانتهاك حشمتها، بل بالحفاظ على صورتها المثالية وتساعد في بسط حقوقها ونيل مركزها الإنساني المبني على الإصلاح لا الإفساد، والمبني أيضا على الأدوار القوية والفعّالة، التي تزيد من أهمية صناعة السينما من خلال السيناريوهات والحوارات وبنسبة عالية تحقق المساواة تاريخيا وثقافيا وشعبيا دون أن يكون الرجل في المقدمة وهي في الخلف، بل معه وبما يؤمن الصورة المجتمعية العربية العادلة لها. فهل يمكن تمكين المرأة في صناعة السينما في المستقبل؟