تساءلت عندما التقيت الدكتور ياسين الأيوبي في لقاء صحفي عن ماهية هذا الرجل الصلب الذي جلس أمامي كنوتة موسيقية منقوشة على قطعة حجرية، فسألته تلقائيا عن الحب فقال: «الحب هو الحياة والحياة امرأة هي أمي، لكن يحدث أن تتشكّل امرأة أخرى في قصيدة محكوم عليها أن أكتبها وأكتبها وأكتبها حتى أموت». اليوم بعد ولادة ديوانه «عندما يعصوصف الوصال» تأكدت أن الرجل يحيا الحب بعمق فتيّ، وبروح تتمسّك بنشوة الحياة بعيداً عن مشكلاتها أو قشورها التي يرميها الشاعر على طرقات حياته الوعرة. وأن العبقرية الأشد ليونة في الحب هي الأكثر رجولة والأقرب إلى الكمال الفني. من الصعب إعادة تشكيل الإنسان الذي أمضى حياته يبحث عن كلمة هي امرأة ما زال يبحث عنها رغم كثرة الدواوين الشعرية التي تبرهن أن أساليبه في الكلام تتخذ صيغة موسيقية ترتيلية خاصة تسمح بتفسيرات إيمانية تشمل قوة الحياة وصلابتها التي غمرته بعمقها وهو جزء من احساسنا العام بها، وبحقيقتها الحلوة والمرّة. فهو يدعونا عن كثب للتساؤل عن الحب عند الرجل بعد الثمانين والتسعين وحتى المئة، بضرورة جمالية في شعر تحيا فيه المرأة كزهرة الوزال التي يعشقها، والتي لا تنفصل عن ذاكرته المشحونة بتفاصيل الحياة الشاعرية خاصة. فهل يمكننا فصل الحياة الشاعرية عن الحياة العائلية في مسيرة رجل فاقت مؤلفاته سنين عمره فتخطّت المئة؟
الإيحاء العفيف في التشدد الرومانسي والتبتل في روحانية الوصال الإلهي هما الاقتران بالمُسعد الحقيقي الذي يلجأ إليه عند احساسه بالشح العاطفي أو عندما يبتعد عن الحبيبة، وهو سرّه الأكبر عندما يرنو إليه عاجزا أمامه مستسلما للقدر الذي يرسم المسافات بينه وبين المرأة في كل ديوان يولد من رحم الشعر الذي لا يخلو من الغوايات الأنثوية التي حملتها «دلُّ هذه» المرة، لتختصر كل امرأة قدرية قابعة في حنايا الذات كالبركان، وتبتعد حاملة معها الوصال المستحيل المُبرأ من فواحش يخافها أو الأحرى لا يقترب من حدود محرماتها، ويبتعد عنها تعظيما للّه الذي أضحى التقرّب منه اعتزازا وحسب النفوس الكبيرة وازعها المزدجر!!.. فهل المرأة حاضرة في قصيدته هاربة منه في الحياة؟؟ أم أنه اللاجىء الى الله عند اليقظة الكُبرى التي تنبلج من الوعي الرجولي وقوة المعرفة ببنية المرأة اليانعة أو المرأة البكر في الحب؟ وهل اختصرت «دلُّ» المرأة في شاعرية ياسينية هي ابتراد واشتعال كهولي؟
إن بلوغ الأوج المعرفي في الحب هو بلوغ لكينونة حقيقية غير متغيّرة في قدرية الحياة التي جعلت منه أديبا قادرا على الوقوف أمام الحب الذي أدرك عناصر حضوره وفعاليته في قصائد ديوانه عندما يعصوصف الوصال الذي يكشف فيه عن ماهية الحب الحقيقي، للتأكيد على إصابته به بعد بلوغه الثمانين، وهو الإدراك الجوهري الذي يتوقف عنده العمر بعيدا عن خيبات الأمل والمجتمع الفضولي المحبط للآمال كيف لا وهو الشاعر الذي تميّز في كل مرحلة من مراحل عمره الشعرية بالرومانسيةِ ومرارتها ونقده اللاذع لنساء هذا العصر والحقيقيةُ هي على المرأة التي يفرُّ منها بعد مأساة تنتمي للواقعِ العقلاني وللعرفِ الاجتماعيِّ.
والأهم من هذا كله خوفه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولكن الشعور القوي بالوجود هو كلمة يعتبرها المحرك الأساسي في الحياة التي يعيشها كيف لا وهو من أبكاه موت البلبل وآلمه فراق أحبته من الأهل والأصحاب وأزعجه الخطأ اللغوي في بيان سحره وشغله عن تفاصيل حياة جمع فيه خزينا أدبيا لا يمكن حصره في مقال ولا في كلمة تكريمية ولا حتى في رحلة حياتية أخرى.. ولا يَظُنَّن أحداً أن هذه القصائد أو الدواوين التي خصّصها للنساء، تدّلُّ على إباحية أو مُجون في العلاقة بينَهُ وبينَهُنَ.
إنهً ينطلقُ من عشق الجمال الأعظم، وهذا يعني أنه لا يمكنُ أن يرتوي أبداً ففي كل مرة يكونُ ذلكَ حبَّهُ الأول لأن الجمالَ لا يُرتوى منه.